لأننا موسميون حد الرتابة حتى مع إشكاليتنا.. سيظل الشتاء فصل (الانفلونزا).. كما سيظل موسماً للتناظر حول حكم تهنئة الآخر -الكافر سابقًا- ببدء العام الميلادي. حين ينتصف (فبراير)، سنتكلم مجدداً عن المعاني الوثنية لاحتفالات (الفالنتاين). وقبلها سينبعث الجدل السنوي حول جدوى تسخير تقنيات الفضاء في تحديد يوم عرفة. غير بعيد عن التعقيدات الشرعية المقترنة بأصول التقويم الغريغوري؛ تظل العبارة التي تعللنا بها الخطوط السعودية فيما نحن ننتظر رداً من أي من موظفيها على الهاتف.. والتي تنص على أن التاريخ المعتمد دولياً هو التاريخ الميلادي.. تظل استفزازية في نظر الكثيرين ممن يعتبرون الإحالة إلى أي تقويم آخر ضرباً من التنازل السياسي. وفيما تمثل المملكة استثناءاً عالمياً بتبنيها للتأريخ الهجري في معاملاتها الرسمية، تزداد الضغوط التي يتعرض لها المخلصون لهذا التقويم بصفته واحداً من آخر ذكريات العصر الذهبي.. ناهيك عن أهميته الحاسمة في تحديد مواقيت المناسبات الإسلامية. عند هؤلاء.. فإن مسألة جدوى الأخذ بالتأريخ الهجري.. بلّه الحديث عن احتمالات الانتقال للنظام "المعتمد دولياً" ليس إلا باباً لإطلاق سيل من التهم يبدأ بالخنوع لمؤامرات العولمة ولا ينتهي عند مسائل الولاء والبراء.

لكن العام الأخير تحديداً شهد مفاجأة من العيار الثقيل حين نوقشت علناً آراء تفيد بعدم دقة التقويم الأساسي الذي يقوم عليه تأريخنا الهجري. حيث صرح الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار القضائي في وزارة العدل وعضو مجلس الشورى لصحيفة الشرق الأوسط بأن تقويم أم القرى يحوي أخطاء لا تقتصر على وقت دخول الفجر فحسب، بل وفي خروج وقت المغرب قبل أذان العشاء بوقت طويل، ووضع وقت صلاة الظهر في نفس وقت النهي، فضلا عن أن صلاة المغرب لا يؤذن لها إلا بعد غياب الشمس بحوالي سبع دقائق. وهو التصريح الذي انبرى له في حينه سماحة المفتي العام للبلاد الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بانتقاد حاد أكد فيه أن جميع الآراء التي طرحت بهذا الصدد خاطئة ومجانبة للصواب ويجب ألا يٌلتفت إليها؛ لما تسببه من إثارة التشكيك عند المسلمين.

سماحة المفتي أوضح في بيان صدر عنه أن تقويم أم القرى رسمي وشرعي ولا غبار عليه؛ حيث أشرف عليه نخبة من أهل العلم الموثوق في علمهم وأمانتهم، وسار عليه العمل منذ أكثر من 80 عاما وحتى وقتنا الحاضر..ليعود العبيكان ليؤكد في تصريح خاص بـ (الشرق الأوسط) أن المسؤولين في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، والمسؤولين عن تقويم أم القرى، أقروا بوجود خطأ في التقويم، معتبراً إعادة النظر في التقويم، مسألة ليست بالصعبة. ذاكراً بأن الرجل الذي عهد إليه يإعداد التقويم الذي تسير عليه أمة المليار وهو الدكتور (فضل نور) أفاد بأنه أعده بناءً على ما ظهر له بدون أن يكون لديه أي أساس مكتوب. وأنه من خلال الحديث معه ومحاورته تبين أنه لا يميز حتى بين الفجر الكاذب والصادق على وجه دقيق، حيث أعد التقويم على أول إضاءة تجاه الشرق في الغالب، أي على درجة 18.. وبعد عشر سنوات أخرى قدمه –جزاه الله خيراً- إلى درجة 19 من باب (الاحتياط).

كل النص أعلاه والذي تم اجتزاؤه من تقارير أوردتها الصحيفة المذكورة في هذا الصدد يزيد من معضلة التقويم الهجري الذي لا يمثل مشكلاً في حد ذاته بقدر ما تمثل قدسيته المفترضة حاجزاً نفسياً يعيق كل محاولات تعديل أسلوب تطبيقه.
خذوا الغريم التقليدي على سبيل المثال.. التقويم الميلادي الذي يلخص عند البعض كل شرور الحملات الصليبية وأعياد الحب ودماء فطير صهيون. هذا التقويم مر بمراحل تعديل وتقويم مضحكة في مجملها. فسنة 718 رومانية تجاوزت الـ 445 يوماً لغرض "ضبط التقويم" الذي كان قائماً أساساً على 10 أشهر وحسب ليمر بفترات تطوير وتضاف له الأشهر ثم تغير مواقعها وتعداد أيامها وفق حسابات فلكية لينتج نظام متماسك يمكن اعتماده لتسيير حياة البشر. المسيحيون أنفسهم يتندرون على نظامهم الذي تم اعتماده أساساً بعد ميلاد المسيح بأربع أو ست سنوات.. ما يعني واقعياً أننا في العام 2012 للميلاد! لكن ماذا يهم في كل هذا طالما التقويم المعتمد (يعمل) بكفاءة.

الميزة التي يجب أن نعيها فيما يخص نظم التأريخ كلها أنها في النهاية بشرية.. القصور سمتها الأساسية التي تطلب سيلاً متتابعاً من عمليات الضبط لجعلها ترقى لأنماط الحياة المتغيرة بدورها.

المصريون يعتمدون كلمة أخرى للإشارة للتقويم السنوي.. هم يسمونه (النتيجة).. وهي كلمة جد معبرة لوضع (الأمة) إذ تلتفت نحونا جموعها في انتظار نتيجة نهائية لمعمعة البحث عن بداية الشهر الهجري ونهايته.. حتى لو كان ذلك بيد راعٍ وحيد بقلب الصحراء.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية