لا يزال بعضٌ من هواة العمل الصحفي في عالمنا العربي يظن - رغم كل التجاوزات التي تصدر بحق الصحافة والصحافيين - أن مهنة الصحافة هي مهنة الأبّهة والتمظهر والوجاهة والتفاخر بحمل البطاقة الصحفية، والتردد على نقابة الصحافيين لحضور الاجتماعات والندوات، والجلوس على الكراسي الدوارة داخل المكاتب الصحفية المجهزة بكل وسائل الراحة والاسترخاء، والدعوة لحضور الولائم الفاخرة ذات اليمين وذات الشمال، واحتساء الشاي وتناول المرطبات بعد إجراء الحوارات والمقابلات الصحفية مع الشخصيات المرموقة، وغير ذلك مما يظن هؤلاء.
لكنً حقيقة الأمر ليست كذلك على الإطلاق، بل إن واقع الحال يقول لهؤلاء الهواة: إن من كان هذا شأنه وهذه حالته فهو بالتأكيد ليس صحفيًا، ولا يمكن له بحال أن يكون صحفيًا يومًا ما، وربما كان أولى له أن يبحث عن عمل آخر يوفر له حياة الدعة والراحة والاسترخاء التي يريد، إذ أن حياة الصحافيين ومهنة الصحافة في عالمنا العربي غير ذلك تماما، فهي مهنة الجد والكد، التعب والنصب، الشقاء والمعاناة، السهر والقهر، الألم والدم أحيانا.
إن الصحافة في عالمنا العربي ليست هي السلطة الرابعة – كما يفترض لها أن تكون – التي تراقب وتحاسب، وتنتقد وتوجّه، وتنقل رأي الشعب وتعبر عن آماله وطموحاته وأمانيه، وتفتح عيون الناس على السلطة والحكم، وتكشف أي عملية فساد قد تحدث في أجهزة الدولة. وإنما أصبحت صحافتنا العربية اليوم تعاني أكثر من ذي قبل من سياسات التضييق على الحريات والبطش والقمع والقهر والمصادرة والإغلاق؛
فنظرة سريعة على التقارير والبيانات الصادرة عن اتحاد الصحفيين العرب والمنظمة العربية لحرية الصحافة، ومنظمة مراسلون بلا حدود، وغيرها من المنظمات والإتحادات الأخرى التي تُعنى بشأن الصحافة وحقوق الصحافيين في العالم بشكل عام وفي عالمنا العربي بشكل خاص، تُبين مدى التجاوزات الكبيرة والخطيرة التي تمارس ضد حرية الصحافة والصحافيين من تهديد واعتقال وإيذاء واعتداء وإغلاق صحف وقتل في بعض الأحيان كما حدث أخيرا في جريمة اغتيال الصحفي جبران تويني النائب والإعلامي اللبناني مدير عام صحيفة "النهار" الذي تم اغتياله قبل شهر في بيروت، والذي نعتبر عملية اغتياله جرحا آخر يضاف إلى جراحات الصحافة الكثيرة والمتكررة، كما يضاف إلى الثمن الباهظ الذي تدفعه الصحافة ويدفعه الصحافيين من أجل الوصول إلى الحقيقة،
والمحزن في الأمر أننا لازلنا نرى مؤشر الجرائم والاعتداءات ضد الصحافيين في ارتفاع دائم واضطراد مستمر، فعلى سبيل المثال لا الحصر في العراق وحده - كما تقول تقارير المنظمات التي تُعنى بالصحافة العربية- وفي ظل شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي يدعو لها الاحتلال الأميركي قتل 19 صحافيا على الأقل معظمهم سقطوا بنيران قوات الاحتلال الأمريكي الداعي للحرية والمبشر بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومما يزيد من بؤس الصحافة والصحافيين العرب أنه حتى سياسات الإصلاح التي تتبناها دولنا العربية لم تمس لا من قريب ولا من بعيد مسألة حرية الصحافة وإلغاء القوانين المقيدة للحريات الصحفية، بل إن بعض الدول العربية تراجعت عن وعودها بإلغاء بعض هذه القيود المفروضة على الصحافة، وزادت حدة الرقابة والتضييق على هامش الحرية البسيط الذي تتمتع به الصحافة في عدد قليل من هذه الدول،
فتأخر بذلك ترتيب الدول العربية في قائمة الدول التي تتمتع بحرية الصحافة في العالم حتى كادت تقترب من الدول التي تُعرف بدول الجحيم الصحافي مثل كوبا والصين وكوريا الشمالية.
إن خدمة صاحبة الجلالة – الصحافة – اليوم ليس بالأمر بالهين كما يتصوره البعض، بل هو عمل شاق يتطلب من الصحافيين مزيدًا من الشجاعة، والجد، والعطاء، والبذل، والسهر، بل قد يتطلب أحيانا مزيدا من الدماء من أجل الوصول إلى الحقيقة التي لا مساومة عليها في أدبيات وعُرف الصحافة والصحافيين الذين نذروا أنفسهم من أجل الحقيقة وبطبيعة الحال سيضحون بالغالي والرخيص من أجلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" صاحبة الجلالة " وصف يحلو للعاملين في مهنة الصحافة أن يصفوا به مهنته، باعتبار أن (الحقيقة) تاج على رأسها، وحلتها الملكية: "الموضوعية".. "الدقة".. "الوضوح".