انتهى فصل الانتخابات، وانتهت معه حمى الدعايات الانتخابية. ولسنا هنا بصدد من فاز فيها ومن لم يفز، ذلك أن موضوعنا سوف ينصب على ما أفرزته حمى هذه الدعايات من آثار سلبية وغير حضارية على البيئة الفلسطينية، التي كان من المفترض أن لا تتعرض لأي انتهاك، والتي لا ينبغي لها إلا أن تكون خضراء، نقية الهواء والماء، خالية من كل الشوائب، نظيفة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ودلالات، تشع ألقًا وجمالا.

انتهت الحملات الدعائية، والمقصود هنا تحديدا كافة أشكال الملصقات الورقية، إلا أن آثارها مازالت قائمة، وعلى الأرجح أنها ستظل قائمة إلى أمد طويل كون هذه الآثار في حجمها ومساحتها تتعدى حدود المعقول، وكونها تراكمية محصلة ثلاث حملات دعائية متوالية شهدها الوطن الفلسطيني مؤخرًا، إضافة إلى بقايا آثار الحملات السابقة والتي مضت عليها سنوات طوال.

إن المتجول في شوارع المدن وكافة التجمعات السكانية الفلسطينية التي جرت فيها الانتخابات سواء البلدية والقروية أو الرئاسية أو للمجلس التشريعي سوف يهوله هذا الكم الهائل من الملصقات الدعائية ليس على الجدران فحسب وإنما على أعمدة الكهرباء والهاتف والشاخصات العمومية وخاصة المرورية ومداخل الدور وأسوارها، وعلى اللافتات التجارية الخاصة، وعلى أبواب المحال التجارية والدكاكين، ولم تسلم اللافتات التي تحمل أسماء المدارس أو المؤسسات العامة هي الأخرى، فنالت نصيبها من الطمس والتشويه وإزالة معالمها الأساسية.

وباختصار لقد انتهك جانب هام من البيئة الفلسطينية هو الجانب الأكثر بروزا وظهورا، وهو يمثل عنصري النظافة والجمال. والحق يقال لقد فقدت هذه البيئة مساحة شاسعة من هذين العنصرين جراء الاعتداء السافر عليها سواء عن قصد او غير قصد، او عن دراية وعلم او جهل وعدم وعي كاف للحيلولة دون ارتكاب هذا العمل اللاحضاري، والذي يحمل في طياته شكلا من أشكال التخلف والجهل والأنانية وانعدام الشعور بالمسؤولية تجاه الممتلكات العامة والخاصة.

ولسنا هنا بصدد طرح هذا الموضوع من قبيل الشكوى \، او مجرد تسليط الأضواء على السلبيات. ومن منطلق ان مدى جودة البيئة يشكل معيارا من أهم المعايير التي تقاس بها حضارات الشعوب، فلا يعقل ان يكون السعي الى تحقيق أي إنجاز خاص او عام على حساب انتهاكها وتشويهها، حتى لو كان الهدف من هذا الإنجاز "تحقيق الديموقراطية والحريات الأساسية وكافة أشكال الإصلاح "، وبمعنى ادق السباق الى عضوية المجلس التشريعي او البلدي . وكان المفترض ان يكون للبيئة نصيب كاف في البيانات الانتخابية ، او على اقل تقدير ان لا تنتهك وتستباح ، وان لا تتحول "الأعراس الانتخابية" الى مآتم بيئية.

وهنا لابد من طرح سؤال عريض متعدد الجوانب: بأي حق، وما هو المبرر والمسوغ لطمس اللافتات والشاخصات بكل أشكالها الخاصة والعامة؟ او ليست هذه اللافتات والشاخصات تعود في ملكيتها إلى أصحابها الذين انفقوا من مالهم الخاص او العام لإيجادها وتعليقها لكي تخدم أهدافا مشروعة خاصة بهم، وهم يدفعون لقاء تعليقها ونصبها ضرائب خاصة بها ؟ او ليست جدران المدينة جزءا من الوطن، فبأي حق تشوه ؟

أوليست أبواب المحال التجارية ملكا خاصا لأصحابها يفترض ان القانون يحميها، وفي ذات السياق فمن يجرؤ القول انه يملك الحق في التعدي عليها وتشويهها وإزالة ألوانها ومعالمها الاساسية؟ أوليست أسوار البنايات وبواباتها ملكا خاصا هي الأخرى، وهل استؤذن أي من أصحابها قبل تشويهها، ام إنها وهذا الواقع، قد استبيحت بالرغم منهم ؟ ان هذه الأسئلة الشاكية المتألمة لا تقف عند هذه الحدود بل انها تنطبق على كل معلم داهمته هذه الملصقات التي كان من المفترض ان تخصص أماكن وزوايا محددة سلفا لها.

وهنا ونحن ما زلنا في صلب الموضوع، وما دمنا نريد ان نحذو حذو الأمم المتقدمة والراقية في اعتمادها الديموقراطية وإشاعة أجواء الحريات الأساسية ومنظومة حقوق الإنسان منهجا سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فلماذا لا نحذو حذوها فيما يخص كل إجراءات السلامة والوقاية والحفاظ على سلامة البيئة ونظافتها وجودتها ونقائها؟

لماذا لم يؤخذ هذا الموضوع الهام والحساس بعين الاعتبار؟ فكما تم تعيين مراكز استعلامات، ومراكز اقتراع، وهيئات مشرفة تخص كل ما يمت الى عملية الانتخاب بصلة، وكما تم تعيين مواعيد بدء وانتهاء للدعايات الانتخابية، لماذا لم يتم تحديد أماكن وزوايا خاصة بالملصقات الدعائية ؟ وهل تم تحذير الذين يرتكبون المخالفات من إمكانية وقوعهم تحت طائلة المساءلة والمقاضاة والمجازاة القانونية ؟ ام ان الأمر برمته لا يستحق، وغير ذي بال وأهمية ؟ ام انه مجرد نسيا ؟ وأيًا كانت الحال، فان الخطأ فادح، يصل الى حد الخطيئة.

واستكمالا، فان الأغرب من كل ما ذكرناه آنفا ان احدا من الذين حاوروا المرشحين فرادى او كتلا عبر وسائل الأعلام بعامة، والفضائية بخاصة – والحديث عن المحاورين الفلسطينيين – لم يتطرق في نقاشه وحواره الى موضوع هذه الانتهاكات الصارخة للبيئة، رغم تذمر الكثيرين من التجار والأهالي وشكواهم مما لحقهم من أذى ومكروه وخسائر. وهذا في الواقع أمر مؤسف ومحزن في آن واحد.

وكلمة أخيرة، لقد انتهى كل شيء، وأصبح انتهاك البيئة أمرا واقعا ملموسا لكل ذي بصر وبصيرة، يصابحنا ويماسينا، ويخشى لا سمح الله ان نتعايش معه وكأنه جزء من حياتنا اليومية. والسؤال الأخير الذي نطرحه هنا بإلحاح – كي ننتقل من ديمومة ترديد الشكوى والتذمر الى الشعور بالمسؤولية وفضيلة الاعتراف بالخطأ والسعي الجاد لإزالة كل مظاهر انتهاك البيئة الفلسطينية - : من سوف يتحمل مسؤولية إعادة البيئة الفلسطينية إلى سابق عهدها ؟ والإجابة عن هذا السؤال أنها مسؤولية عامة مشتركة تقع على كل من أجهزة السلطة المعنية، والمجلس التشريعي الجديد والبلديات والمجالس المحلية وكذلك المواطنين. وتحية لكل حملة دعائية أخذت بعين الاعتبار جودة البيئة الفلسطينية ونظافتها ونقاءها.
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية