يا كويت.
زرت الكويت زيارة قصيرة جدا الأسبوع الماضي، وكان للسرعة التي رتبت فيها الزيارة، مع الفترة القصيرة جدا التي قضيتها فيها، أثرا غريبا في نفسي، ساهما، مع مشاعر قديمة أصيلة في اضطرام قلمي بعد طول سبات.
يا كويت.
هكذا هتفت نفسي عندما حلقت الطائرة فوق أنوار الكويت عند الساعة السابعة مساء. رأيت صورة الكويت في نفسي تنبعث مع اقترابي من نورها واتضاح خارطة بهاء ليلها.
يا كويت.
كنت أسمع أخبار إذاعة الكويت وأنا طفل تتحدث عن الشيخ صُباح السالم الصُباح (كانت المذيعة تنطق اسمه رحمه الله بضم الصاد)، وربما هذه أقدم ذكرياتي عن الكويت.
يا كويت.
لم يكن لوالدي كبير اهتمام بالثقافة المرئية، وكان يفضل عليها الثقافة المطبوعة، فحوى بيتنا من القصص والدواوين أشكالا وألوانا، ولكن لم يحو تلفازا حتى تخطى حاجز الزمن طريقة أبي في التربية. هكذا بدأت علاقتي بالكويت.
يا كويت.
عشقت في الكويت كرتها، مَن مِن أهل الكويت لا يذكر أجمل أهداف دورة موسكو الأولمبية الذي مهره بختمه جاسم يعقوب، ومن من أهل الكويت لم يفرح بالفوز على إيران ثم على كوريا الجنوبية لتصبح الكويت أول دولة عربية وخليجية تجلب الكأس الآسيوية إلى حيث يليق بالكأس أن تكون. ومن من أهل الكويت ينسى أهداف جاسم الثلاثة مع ماجد ومنصور في مرمى فريق هامبورج. ثم من ينسى عبد العزيز العنبري عندما سجل في مرمى الصين لتتأهل الكويت لكأس العالم كأول فريق عربي آسيوي خليجي. رحم الله الشيخ فهد الأحمد. هكذا توطدت علاقتي بالكويت.
يا كويت.
يذكر الناس درب الزلق وحسينوه، وأترحم ويترحمون على حبابة، ويضحكون ويتعلمون مع نعمان وعبد الله، ولكنني أذكر عملا فنيا آخر ترك في نفسي أثرا لا ينسى، ربما لمدى صدقه وربما لأنني كنت -كغيري من الشبان والشابات_ أحس بهذا المسلسل يحكي قصتي. تحياتي العطرة لخالد النفيسي وحياة الفهد ولباقي أسرة "إلى أبي وأمي مع التحية"، ففي زمن أصبح الإعلام فيه فنا يروج له بالأجساد، كنت (وغيري لست أشك في ذلك) ننتظر كل ليلة درسا جديدا حقيقيا مخلصا يقدمه لنا الفن الراقي الشريف.
يا كويت.
هل تذكرون أوائل الثمانينات الميلادية؟ لعل الكثير منكم كان بعد يخطو خطواته الأولى أو يحبو. سأذكركم بمأساة عاشها شعب قريب منكم، سجلها الشيخ أحمد القطان في خطبة له بكى فيها وأبكانا عندما تحدث عن رسالة وصلته من امرأة معتقلة في سجن من سجون بلاد الشام تسأله فيها عن حكم قتل نفسها للخلاص من التعذيب والاغتصاب الذي تتعرض له على أيدي الزبانية. هل قرأتم مجلة المجتمع وقتها؟ هي المجلة الوحيدة التي لم تداهن ولم تخش في الله بطش ظالم ولا لومة لائم. هكذا زاد حبي للكويت.
يا كويت.
آه يا مجلس الأمة، كم أتعبت غيرك من المجالس في الوطن الكبير من الخليج إلى المحيط. هل أحتاج لذكر المزيد؟ كم غبطتك يا كويت.
يا كويت.
اتهمت بالنفاق من أجلك يا كويت، بل من أجلي صدقيني. لأنني لم أر كما رأى معظم العرب في احتلال جيش صدام تحريرا، ثم لأنني لم أر في الطريقة التي حررت فيها الكويت صدقا من حلفاء الكويت، ولأنني رأيت وقتها وراء الأكمة أمرا دق فهمه عن كثير. بحت بمشاعري، التي أغضبت جل أبناء يعرب، تجاه احتلال الكويت في رسالة أرسلتها لجريدة المدينة التي كنت أقطن فيها في أمريكا حيث أدرس، وتحدثت فيها عن زميلنا وليد بن خالد السلطان العيسى الذي تخرج وعاد للكويت فرحا ليفجأه سقوط وطنه رهينا لحماقة ظالم ومهادنة منافقين. ثم تحررت الكويت، ولكن بعد أن دفعت الكويت والعراق -وقبلهما وبعدهما يعرب بن قحطان- ثمنا باهظا بسبب الظلم والطغيان ثم الاحتلال فالتحرير. ولكنني ما حدت عن مبادئي، رغما عن كل ما لاقيته من مرارة، من أجلي أولا، ثم من أجلك ثانيا.
يا كويت.
ولن أفي الكويت حقها مهما أطنبت في الحديث عنها، ولكن أي ذكر للكويت يكون أبترا دون الحديث عن أحد مجددي الإسلام في هذا العصر، من وجهة نظري، وهو الدكتور عبد الرحمن السميط، الذي كان إنسانا ففهم حاجة الإنسان، ولم يترفع بعلمه وجاهه وماله عن جهلهم وبؤسهم وفقرهم ومرضهم وجوعهم، فترك من الأثر في أفريقيا السوداء ما عجزت عنه جيوش الدعاة من كل الملل.
يا كويت.
وبعد يا كويت، فقد أتيتكِ زائرا على عجل، وغادرت وأنا منكِ خجِل. فلعلي أجد فسحة أفيك فيها حقكِ، ولعلكِ.
____________
كتبت المقالة ونشرت أصلا في عام 2005.