للذكرى فقط!
في غرفتي الحزينة أرافق الظلام وأصحب الصمت والهدوء ، والنوافذ الراعشة يطبق عليها السكون ، بين جدران أربعة وخيال سابح في لجة الآلام وقد رفع الأشرعة يبحر في الأيام بلا وجهة محددة. في ظل هذه الظروف المتعبة وفي غرفتي الحزينة المظلمة يتسلل النور من ثقب الباب حاملا معه صوت ناي حزين ، يعزف ألحان الشجن ويثير الدمعة الحبيسة في مكامن الوجدان لتعدو على خدِ حفر الزمان به خطوط البؤس والكآبة والأسى ، حتى غدى الوجه من بعد النضارة يشتكي - أواه من فرط الحنين .. أواه من شوق دفين - قلبي تسافر فيه أسراب الندم وتسكنه الحسرات والشكوى والألم .


في هذه الأثناء يفتح الباب طيف لا أرى من ملامحه سوى هالة من ضياء وهامة كبرياء ، وبنبرة الواعظ الواثق يقول : هون عليك ولا تحزن فالحياة أوسع من غرفتك الضيقة ، افتح الباب واخرج إلى عالم رحب فسيح الجنبات ، وانظر الى الأفق العريض نظرة مقدم لا مدبر واقبر أحزانك في هذه الغرفة المظلمة واردم عليها جدرانها الأربعة ، واجعل ذكرياتك كأطلال لا نعيش فيها بل نحنّ إليها ونتركها للذكرى فقط .


صقيع العمر ومدفأة

في الليالي الباردة من عمر الحياة تدفعنا الحاجة إلى تلك المدفأة للجلوس أمامها أو بالقرب منها لتذيب رواسب البرد والجفاف ، تمر بنا هذه اليالي القارصه وأصوات الرياح الهادرة تجتاحنا عبر مساحات النوافذ والأبواب لتعزف نغمة خوف عاصفه في مشهد صامت تنتشر في زواياه بقايا من سكون الأرجاء وتقبع على جدرانه رسوم من ظلال الأشياء ، نمد كفيّنا نستجلب دفيء ألسنة اللهب هربا من صقيع الشتاء ، وإن زادنا الشتاء منها اقترابا فلن تمتنع من التهامنا واحراقنا لتكبر وتنمو ، فالقرب منها نعيم وزيادة القرب جحيم ، فما أعدل أن نكون ما بين خطين الأول يعزلنا عن برد الشتاء والثاني يعصمنا من نار وبلاء ، تلك قضت حكمة الأيام " إذا اختل مقدار الحاجة والاستغناء فإن الطرفين شقاء وعناء "



في مواجهة المجهول!

إلى الأخوة في المهجر القسري إلى القابعين في المنفى الجبري - مهجر الإحباط ومنفى اليأس - عودوا إلى مواطن الأمنيات إلى الأحلام إلى الطموح ، عودوا إلى الأمل الطروب إلى مقارعة الخطوب ، فلقد أتانا من الأثر القديم "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل "
خذ مقعدا بين القادمين من رحلة الشقاء على متن الخطوط التفاءلية ، وتوجه إلى بلاد السعادة ففي استقبالك الأيام المشرقة وقد رفعت لافتات الترحيب " مرحبا بالطامحين الصادقين " وعلقت حول عنقك عناقيد الزهور والياسمين وقدمت لك باقات البشائر ، لتعلن لك هذه الأيام عن ذلك الشغف الذي يحدوها لاحتضان كل انسان طموح ، ولتعلن كذلك عن تقديرها للفارس الذي سينطلق في أرجاءها وقفارها ممتطيا جواد العزيمة ورافعا سيف الإقدام في مواجهة المجهول!



تأمل عبر السطور

من الأرحام الواسعة إلى الدنيا الضيقة ، ومن العدم الخفي إلى الوجود الملموس ، رحلة عبر العوالم في أزمنة متجددة ، نستقر في موطن ما بين اللاوجود والخلود ، موطن فانٍ يسميه نزلاءه بالحياة الدنيا ، زخرفا ورونقا وبريقا ، زينة وبهاءا وغرورا . رحى الأيام تدور وتتجدد فتضفي عليها تنوعا في أحوالها واختلافا في حالاتها ، نتنقل في أزمنتها كانتقالنا في أمكنتها ، نشغل حيزا من فراغها الواسع لكنها تضيق بما رحبت ، ونعيش لحظاتها ما بين ضدين متناقضين ، اذا ما أردنا أن نعرف طعم الرخاء لابد وأن نعرف الشدة ، واذا ما أردنا أن نستلذ بحلاوتها لابد وأن نتجرع من علقمها ، إنما هي ألحاظ خاطفة رأت المكان لتودعه لا لتنعم بالبقاء فيه ، ولكن بعض هذه الألحاظ تعلقت بما رأت وعاشت لحظة النظر كما لو أنها أبدية الوجود ، ولم تدرك أنها لحظتين الأولى لقاء والأخرى فراق ، فخدعت بالأولى وتغافلت عن الثانية حبا بالبقاء ، فتجاوزت الحقيقة بترف وشغف وتمردت الدقيقة إلى ساعات سيعقبها أسف ، فحاكت حيكها بأوهن الخيوط ورسمت رسمها بأبسط الخطوط ، لتستنزف جهدها كله إلى ما قبل النهاية ، وعند النهاية تجثو على ركبتين من حسرة وندم ، فتصحو على أشعة الشمس بعد أن كانت تحت فيء الظلال ، فطوبى لغريب الدار الفانية الذي أدرك الحقيقة فاشتاق للخلود وتزوّد من دنياه لآخرته وانه على عجل لنيل الرضى فما زال يردد : "وعجلت إليك ربي لترضى".

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية