يثير هذا الكتاب جملة من القضايا الأدبية، فيما يتعلق بفن القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًا، وعلى الرغم من أنه وُضِعَ عن كاتب واحد، هو الكاتب الكبير الأستاذ فتحي الإبياري، وعن صنف أو لون أو فن واحد من فنون الأدب، هو القصة القصيرة، بل القصة القصيرة جدًا، فإن مؤلفه الكاتب المبدع ملاك ميخائيل استطاع أن يُحيد مشاعر حبه وتعصبه الجميل وإخلاصه الحميم للإبياري، ليكون أكثر إخلاصا للحقيقة الأدبية، أو للقضية الأدبية التي يناقشها ويدلل عليها. يعود ميخائيل إلى المعاجم اللغوية يستنطقها ويستشيرها، ويستأنس بآراء نقاد وأدباء كبار من أمثال: يوسف الشاروني، ود. السعيد الورقي، ود. عبد العزيز شرف، ود. حلمي القاعود، ويستشهد بمقولات وتعبيرات تخدم مشروعه في هذا الكتاب، ويقتبس ما يراه مؤيدا لوجهة نظره في هذه القضية أو تلك، بل إنه يدخل فيما يشبه المعركة الأدبية الجانبية مع الأديب الكبير يوسف الشاروني، مدافعًا ـ ليس عن فتحي الإبياري ـ ولكن عن وجهة النظر التي يرى صوابها بشأن مصطلح القصة الشعرية في أعمال فتحي الإبياري، فيوسف الشاروني يرى أن قصتي "ترنيمة حب"، و"رسالة حب" لا نستطيع أن نطلق عليهما قصة أبدا، بل هما أقرب إلى ما يعرف باسم الشعر المنثور، أو النثر الغنائي"، ويرى ملاك ميخائيل أن لفظة (أبدا) تحول الحكم النقدي الأدبي الخاص إلى حكم مطلق. وهو محق في ذلك، ويرى أيضا أن حكم الشاروني من الممكن أن يكون جائزا في ظل الأحكام النقدية التقليدية، أما في ظل معايير السبق، ومقاييس الريادة، وموازين التجديد الأدبي في الشكل والمضمون، فالأمر يختلف. وأنه بالنسبة للقصتين محور المعركة الأدبية، أو محور النقاش، فإنه ممن الممكن أن نطلق عليهما مجازا اسم "القصة الشعرية".

لذا نرى أن ملاك ميخائيل يطلق على كتابه عنوان "فتحي الإبياري: شاعر القصة"، ويتحدث في مبحثه الأول عن الشعر ولغته، ويستنطق في هذا "لسان العرب"، وآراء الجرجاني وغيره من نقاد العرب القدامى، ثم يستعرض أنواع الشعر القديم في صورة مناهج، ومنه منهج الشعر الملحمي، ويقول: "مثل ملحمة جلجامش الفارسية" (ص 26)، وهنا تكون كبوة الجواد الأولى، فملحمة جلجامش ليست فارسية، وإنما هي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على 11 لوحا طينيا، اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة، وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق، ويحتفظ بالألواح الطينية المكتوبة باللغة الأكادية، في المتحف البريطاني، ويعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان، بينما ملحمة "الشاهنامة" للفردوسي ـ على سبيل المثال ـ تعد ملحمة فارسية.

ويذكر الكاتب بعد ذلك: المنهج التأملي، والمنهج القصصي، وهنا لنا وقفة، حيث يؤكد في (ص 28) أن الشعر القصصي أو القصة الشعرية لم تدخل أدبنا الحديث إلا في النصف الأول من القرن العشرين، ونحن نعرف أن بعض قصائد عمر بن أبي ربيعة ـ على سبيل المثال ـ قد جاءت على شكل قصة، أو أنها صيغت في قالب قصصي، وكذلك بعض قصائد المنخَّل اليشكري، وغيرهما.

وأتفق تماما مع ملاك في قوله (ص 30): إن الكلمة يختلف معناها ودلالتها في المعجم اللغوي عنها في العمل الأدبي، ففي العمل الأدبي تكتسب الكلمة إيحاءات وظلالا ومعاني قد لا تكون في المعنى اللغوي أو القاموسي أو المعجمي. فالكلمة في العمل الأدبي تكتسب حيوية أو طاقة جديدة، أو نشاطا جديدا من خلال علاقتها بما قبلها من كلمات وما بعدها، أو من خلال السياق الدلالي نفسه.

في المبحث الثاني من الكتاب يتوقف الكاتب عند لغة القصة عند فتحي الإبياري، ويرى أن أعماله القصصية تحمل في ثناياها النبضة الشعرية، أو الومضة الشعرية والشعورية المعبرة والمؤثرة، وتتزايد متعة القارئ وتتضاعف بتكرار قراءة إبداعاته على عكس ما هو معتاد أو متوقع بقراءة أعمال إبداعية أخرى، وذلك بسبب ما تحويه تلك الإبداعات من تكثيف فني مرهف، وتكوين جمالي مثير للمشاعر ومحرك للأفكار، وقد ساعد على ذلك: الموهبة الفطرية، والتعليم والتأصيل، والصقل والتطوير، والالتحام العقلي والتلاحم الوجداني مع المجتمع في تجدده المستمر، وفي عصر السرعة والاستعجال الذي يعيش فيه الإنسان حاليا.

وقد تميزت أعمال فتحي الإبياري القصصية وسط أقرانه، بشاعرية العنوان، ويرى الكاتب أن الإبياري واحد من المعدودين الذين يملكون موهبة اختيار العنوان، وأيضا يحسنون استخدامه في إبداعاتهم، مثل: "بلا نهاية"، و"قلب الحب"، و"كلمة حلوة"، وغيرها، وهو يسترشد في ذلك بآراء شيخ القصة العربية القصيرة محمود تيمور.

أيضا ما يميز قصص فتحي الإبياري القصيرة، شاعرية اللغة، فهو يستخدم لغة أدبية سهلة واضحة الكلمات ذات معاني بليغة في مفرداتها وفي تراكيبها بغير تسطيح ولا إسفاف ولا غموض أو إبهام أو إغراب، فهو يكتب السهل الممتنع بغير حذلقة أدبية أو فذلكة لغوية، مما يجعل القارئ متوحدا مع ما يقرأه، متحدا به، فيوشك أن يجد نفسه فيما يقرأه.

ثم هناك شاعرية التصوير، من خلال التجسيد والتجسيم والحركة والصوت واللون جميعا، وفي ذلك يستعين ملاك ميخائيل بآراء الإبياري نفسه في مقدمة أعماله الكاملة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1992 حيث يقول: "ندعو إلى خلق قصة قصيرة جدا، تمتزج فيها الرؤية التلفزيونية بالحوار المسرحي، أي تبتعد القصة القصيرة عن الاستطرادات والتعبيرات الوصفية التقليدية، وأن تكون الكلمات مشحونة بالصور المجردة مثل الكاميرا، وبالإحساس الفني المركز المعبر عن مكنونات النفس البشرية".

ويبدو أن الإبياري استطاع أن يطبق هذه المواصفات على قصصه القصيرة جدا، بشهادة ملاك ميخائيل، واقتباساته المتوالية، أو أمثلته القصصية التي يقدمها لنا دليلا أو قرينة على تطبيق تلك المواصفات أو المعايير على فن القصة القصيرة جدا.

غير أنني لا أوافقه على قوله في نهاية هذا المبحث: "نختتم جولتنا السريعة هذه" (ص 80)، فلماذا وصف الجولة بأنها سريعة، إننا في إطار كتاب علمي، ومباحث علمية، ولسنا في إطار ندوة أو حديث عابر سريع مرتبط بزمن محدد، فإذا لم يكن الوقت متاحا في ظل تأليف كتاب، أو بحث علمي، فمتى يكون متاحا أو مباحا؟. لذا أرى أنه من الأوفق حذف هذه العبارة من الكتاب، خاصة أن هناك جهدا حقيقيا مبذولا في تأليف الكتاب.

يتوقف المؤلف بعد ذلك عند ظاهرة اختيار الأسماء ذات الدلالة الموحية في قصص فتحي الإبياري القصيرة، سواء من ناحية مناسبة الاسم وتطابقه مع صفات الشخصية وتصرفاتها وأفكارها ومبادئها، كأن يكون اسم البطل (مخلص) وتدل أقواله وأعماله على إخلاصه الصادق والدائم مع باقي شخصيات القصة، أو العكس أي أن يكون اسم الشخصية أو اسم المكان مضادا تماما لأقواله وأعماله.

وعلى الرغم من هاتين الملاحظتين على الأسماء، إلا أنه في العموم ليس هناك أسماء لأبطال أو لشخصيات قصص الإبياري القصيرة، وهذا يدل على اهتمامه ـ في الغالب ـ بالأحداث والمواقف، أو اهتمامه بالتكتلات البشرية والتزاحم والتشابك والتداخل، وهو ما يميز حالة تلك الشخصيات، أكثر من اهتمامه بالشخصية الواحدة، وبالتالي فلسنا بحاجة إلى اسم معين في هذا الزحام والتشابك الشديد، وأن ما يهمنا هنا هو توصيف الحالة في حد ذاتها، وهذا يدل على اهتمام الكاتب بالعموميات التي تهم الناس جميعا أكثر من اهتمامه بالخصوصيات التي لا تهم إلا شخصا واحدا أو بضعة أشخاص على الأكثر.

وفي هذا الرأي تناقض صريح لمفهوم القصة القصيرة مثلا عند رائد من روادها هو يحيى حقي الذي يرى في معرض إجابته عن الفرق بين القصة القصيرة والرواية، أن القصة القصيرة تعنى بما يُنظر إليه من ثقب الباب، أو بما يظهر في الكادر من ثقب مفتاح الباب (أي بالخصوصيات الشديدة)، أما الرواية فهي تُعنى بالحياة بعد فتح الباب على مصراعيه (أي بالعموميات).

وأرى في الختام أن القصتين اللتين دارت حولهما المعركة مع الأديب الكبير يوسف الشاروني، إذا ضمتا إلى بعضهما البعض، وصارتا قصة واحدة، كما يقترح ملاك ميخائيل، فإنها تصبح في هذه الحالة قصة صوتية، بها صوتان، أو قصة قصيرة ذات صوتين: صوت الحبيب الذي يتحدث عن حبيبته، وهي في الأراضي المقدسة، وصوت الحبيبة التي تدعو الله في رحلة الحج ليشفي حبيبها.

وفي جميع الأحوال أرى أن الصديق الكاتب والأديب ملاك ميخائيل، بذل جهدا طيبا في كتابه "فتحي الإبياري: شاعر القصة"، وكان من المخلصين لفن القصة القصيرة في كتابه، ومن المخلصين للأديب الكبير فتحي الإبياري، فجاء الكتاب ـ على الرغم من منهجه العلمي الصارم في بعض الأحيان ـ أنشودة حب، وشجرة وداد، وقنينة عطور، يهديها ملاك إلى الإبياري في عيد ميلاده الثاني والسبعين، أطال الله في عمره، ومتعه بالصحة والعافية.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية