إن الشعب الفلسطيني الذي اعلنت الحرب عليه من كل الجهات بما فيها جبهة الصمت العربي المريب، لم ينكسر على مدى كل سنوات نضاله. ولن تفت في عضده غيوم الخريف، ولا أمطار الصيف، ولا كل هذه التسميات التي ذهبت مع الرياح وان دفع ثمن ذلك غاليا وما زال. أما المنكسرون والمنهزمون فهم الهاربون من المعركة والصامتون والخارجون على الانتماءات القومية والعقائدية. غيوم الخريف هو المسمى الذي أطلقه جيش الإحتلال الإسرائيلي على عملياته العسكرية الحالية في قطاع غزة الفلسطيني. وكغيرها من العمليات التي سبقتها ذات المسميات المختلفة، حملت مضمونا واحدا، تمثل في سيناريو الحرب المعلنة على الفلسطينيين أينما وجدوا بغية شل مقاومتهم المشروعة لاحتلال بلادهم، وسعيهم الحثيث للتحرر منه.
إن الحـرب على الفلسطينيين ليست جديدة، وانما هي قديمة قدم القضية الفلسطينية، وفي ذات الوقت فهي مستمرة الا أن وتيرتها تتباين من آن الى آخر، وقد حملت السنوات الثلاث الأخيرة وتحديدا منذ الاجتياح الاسرائيلي الأول للأراضي الفلسطينية في العام 2001 وحتى هذه الأيام في ثناياها من شرور الحرب وشراستها وأحقادها وتحدياتها ما لم تحمله كل سنوات النضال الفلسطيني. ومع ذلك فهناك ما هو جديد جدا فيها وهو أنها أصبحت " حربا على الفلسطينيين " وحدهم دون أمتهم.
والحديث عن غيوم الخريف، وهي فصل مكرر من فصول الحـرب على الفلسطينيين، ليس فيه جديد. فالحرب هي الحرب. والعدوان هو العدوان. إنه الإجتياح التدميري للبنى التحتية المتمثلة في مصادر المياه والطاقة والإنارة، وتجريف الأراضي الزراعية، وهدم المنازل على رؤوس أصحابها الآمنين فيها.
إنه القتل المتعمد والإغتيال والإعتقال. إنه شل حركة المواطنين في إطار مسلسل الحصارات التي يفرضها جيش الإحتلال. وأخيرا لا آخرا، إنه محاصرة المستشفيات واقتحامها، والإعتداء على طواقمها ومرضاها. إنه الحد المتعمد من حركات طواقم الإسعاف والتحكم بها.
وإذا كان هناك من جديد تأتي به غيوم الخريف، فهوبلا شك يتمثل في حصار مسجد بلدة بيت حانون ومربع محيطه من المباني، حيث لجأ إليه مواطنون فلسطينيون تقطعت بهم السبل، فآووا إليه طلبا للأمن والأمان في بيت من بيوت الله. إلا أن ذلك لم يحل دون انتهاك حرمة هذا البيت المقدس.
إنها الحرب على الفلسطينيين، وليس لها مضمون آخر. وقد أصبحت أهدافها معروفة للقاصي والداني، للفلسطيني وللعربي تحديدا. إن أي ذي بصر وبصيرة، لا يمكن أن يفسرها إلا على أنها تأتي في مسلسل المساعي لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها، أو بصحيح العبارة ما تبقى منها، وفرض الحلول الإستسلامية على شعبها الذي أثبت على مدى تسعة وخمسين عاما، هي عمر نكبته، أنه غير قابل للإنكسار والهزيمة، أو التخلي عن ثوابته الرئيسة، مهما كانت تضحياته وآلامه ومعاناته. وكل ذلك يجري والعالم العربي صامت صمته المريب، يتفرج دون أدنى حراك فعلي.
إن الفلسطينيين على يقين أن كثيرا من العرب قد أصبحوا ينظرون الى القضية الفلسطينية من منظور سياسي قطري ضيق مجرد من بعده القومي متجاهلين أنها ما كانت في يوم من الأيام ولن تكون الا قضية تاريخ مشترك ومقدسات عقيدة يفترض انها تخص العرب والمسلمين جميعا. وهل القدس بأقصاها المبارك، وصخرتها المشرفة، وبقية مقدساتها الأخرى تخص الفلسطينيين وحدهم ؟. وهل هي مجرد عاصمة لدولتهم العتيدة ؟. كلا وألف كلا، فالقدس أكبر من ذلك وأقدس وأعم وأشمل، شاء من شاء وأبى من أبى.
ان الفلسطينيين وحدهم في المعترك. وهذه حقيقة لا جدال فيها. واسرائيل تحاربهم على جبهات عديدة. ومثالا لا حصرا جبهة الجدار الفاصل الذي أشرف على الإنتهاء. وهو ماض في افتراس الأراضي الفلسطينية وتدميرها. وهناك جبهة الاستيطان التي ما هدأ لها هدير في توسعها الأفقي والعمودي وتسمين ما هو قائم. وهناك جبهة الاغتيالات الجوية. وهناك جبهة الاجتياحات شبه اليومية وهناك جبهة الحواجز والاغلاقات وحظر التجوال التي تتحكم بحركة البشر فأعادت الانسان الفلسطيني الى عصور سحيقة فقد فيها أبسط حقوقه الانسانية.
وهناك جبهة المطاردة والملاحقة والاعتقالات. وهناك جبهة الاطباق على القدس وتطويقها تمهيدا للانقضاض على المسجد الاقصى لاقامة الهيكل الثالث. وهناك جبهة التحالف والتزاوج الاستراتيجيين مع الولايات المتحدة، وجراءه أصبح ما هو نضال مشروع ارهابا، وما هو تحرير ومقاومة للاحتلال عنفا واجراما. الا أن الجبهة الأكثر ايلاما وأذى للشعب الفلسطيني هي جبهة العلاقات العربية الاسرائيلية، وهذه العلاقات والاجتماعات والزيارات وكأن السلام قد رفرف بجناحيه على المنطقة.
في ضوء هذه الصورة للوطن في اطار هذه الحرب الشرسة، فانه لا ينبغي الاغفال عن حقائق تخص الشعب الفلسطيني الذي كان في الدرجة الاولى هو الهدف الحقيقي لها. واولى هذه الحقائق ان قوافل التضحيات البشرية منذ مطلع القرن العشرين حتى مطلع القرن الحادي والعشرين الحالي لم تفت في عضده ولم تكسر شوكته ولم تنل منه منالا. وفي المحصلة لم تثنه عن ديمومة المطالبة بحقوقه المشروعة أو تجبره على التنازل عنها حتى في ذروة هذا الاجتياح الذي يمكن أن يوصف بأنه ثانية حروب القرن الحادي والعشرين بعد حرب افغانستان، ولكنها حرب على طرف لا يملك أبسط بسائط الآلة الحربية ولا مقوماتها.
والفلسطينيون قد أثبتوا على الدوام قدرتهم الفائقة على امتصاص الصدمات الى الحد الذي تولدت لديهم عنده مناعة تحول دون المساس بروحهم المعنوية المتميزة أو اصرارهم على الوصول الى حقوقهم المشروعة في الحياة. ولا أحد ينكر أن الجرح هذه المرة عميق ومتعدد الاتجاهات. الا أن صورة هذا الحدث الجلل أبرزت شعبا رابط الجاش قوي الايمان بربه ووطنه وأهدافه، لم يقعده الهلع مما جرى له ولن يقعده عن النهوض من بين الاطلال والرماد، فلطالما كان ندا للتحديات. وكثيرة كثيرة هي الحقائق في هذا الصدد.
وكلمة أخيرة، إن الشعب الفلسطيني الذي اعلنت الحرب عليه من كل الجهات بما فيها جبهة الصمت العربي المريب، فهو لم ينكسر على مدى كل سنوات نضاله. ولن تفت في عضده غيوم الخريف، ولا أمطار الصيف، ولا كل هذه التسميات التي ذهبت مع الرياح وان دفع ثمن ذلك غاليا وما زال. أما المنكسرون والمنهزمون فهم الهاربون من المعركة والصامتون والخارجون على الانتماءات القومية والعقائدية.