هل تذكرون رواية غسان كنفانى" رجال فى الشمس "االتى تحولت إلى فيلم لا يمكن أن ينساه كل من شاهده حيث كان يحكى أزمة ثلاثة فلسطينيين "علقوا" في خزان مياه فارغ على الحدود العراقية الكويتية فى 1948 فاختنقوا وانسلخوا بلهيب حرارة قيظ أغسطس وماتوا بداخل الخزان فى الصحراء قبل الوصول هرباً إلى الكويت ،ولابد و"العالقين بالعالقين " يذكروا أن تتجه ذاكرتك أيضاً نحو العالقين في مخيم الرويشد على الحدود الأردنية العراقية هربا من ميليشيا جيش المهدي في العراق منها إلى العالقين على معبر رفح الآن والعائدين لتونا من عندهم أيضاً، وكأنه كتب على الفلسطينيين أن يكونوا عالقى هذا العصر ! كنا منذ يومين هناك.. احدى عشرة ناشطة واعلامية بالإضافة إلى 4 من الرجال المتطوعين أيضاً توجهوا جميعا وبمبادرة وإن صح التعبير " مغامرة " صحفية نسائية بحتة بلا مظلة من أى نوع ولا تربيطات أو تسهيلات ولا حتى زاد سوي من بضع أقلام وأوراق وكاميرات فيديو وأخرى فوتوغرافية وأجهزة تسجيل وارادة وإيمان بأنه يمكننا أن نفعل شيئاً.
لا ندرى ماذا حدث بالضبط وكيف دخلنا وعبرنا نقاط التفتيش على كثرتها فى العريش ورفح دون توقيف أو مصادرة أو مساءلة .. ربما كانت معجزة .. لكنه ما حدث !
البداية سجلتها الإعلامية زينات أبو شاويش بدعوة انطلقت من شبكة فلسطين للإعلام والدراسات التى تقوم على رئاسة تحريرها ومعها مجموعة من الإعلاميات من مختلف الصحف والفضائيات والمواقع والإذاعات أيضاً ,والتى تزامنت مع دعوة الناشطة إيمان بدوى أحد أهم و أبرز نشطاء الإنترنت على الساحة ,ومعها أفراد من مجموعة " افعل شيئاً "أو" do something" التى تديرها ..
استطاعت زينات جمع حشد اعلامى منوّع , بينما تمكنت إيمان وفريقها من جمع مواد اغاثية لا بأس بها .. تضافرت الجهود وتلاقت عبر الشبكة العنكبوتية ومنها إلى الأرض وكان الإتفاق هو " حملة اعلامية " ومساندة انسانية .
انطلقنا جميعا فى صباح الأحد 22 يوليو إلى العريش ومنها إلى رفح لنرى ونسمع ما لم يكن يخطر ببال ,ولكننا بعدها لم نستغرب كثيرا لأن اللقاء وببساطة شديدة كان مع لاجئي 2007 على معبر رفح .. نعم .. إنه التاريخ يعيد نفسه !
هذه التسمية ليست من عندياتنا وإنما نطقها أحد العجائر العالقين هناك على المعبر بقوله :" احنا يا بنتى سمونا كل الأسامى .. مبعدين , لاجئين , وأخيراً عالقين .. وهذا الوضع والله ما بيذكرنى إلا بالـ " 48 " !
أوضاع مأساوية لا يمكنك أن تصفها إلابالـ" لاجئية " ..فما إن تصل إليهم حتى يتملكك الشعور بأنك فى معتقل مفتوح إلى السماء .. كل الأعمار موجودة بدءاً من المواليد حتى العجائز فى الثمانينيات من العمر .. فى مخيمات العريش أسرّة ملقي عليها نساء وضعن مواليدهن للتو فأصبن بحمى النفاس أما المواليد فقد كان حظهن الجفاف , مرضي عمليات القلب المفتوح أوشكت قلوبهم على السكون والسكوت تماماً , ومرضى عيون عميت وابيضت من المرض والحزن , ومرضى اصابات فى السيقان أوشكت على الدخول إلى مرحلة البتر ..
الجميع هنا " أعزاء قوم ذلوا " يوسف شاب متفوق عائد من بعثة من بريطانيا يقول "كل شئ أصبح قريب منّا المرض النفسي قبل المرض الجسمانى " , " ما بدنا مساعدات .. ما بدنا أكل ولا شرب .. بدنا نرّوح " صرخة تسمعها هناك من الجميع .. أطفالاً فى عمر المدرسة ونساءاً وعجائزاً و شباباً .. أما فى رفح فالوضع أكثر مأساوية .. لقطة لم تفت زميلتنا " نوارة نجم " .. إنها صرخات هاشم الذى يفترش حصيرة بالية تحت شجرة خوخ بأحراش رفح ويلقى بمحتويات كيس كبير من الأدوية على الأرض " يا عالم احنا بننام فى الجوامع وتحت الشجر .. جينا مصر علشان نروح خاسين دم .. جبت بنتى علشان أسوي لها عملية بواسير ومرتى عندها سرطان بالثدى, والله بجيب لها 5 أقراص فقط بـ 100 جنيه وهذا ليس كل علاجها وإنما جزء فقط , كان معى 2000 دولار دفعتهم أدوية وما خلصت مشوار العلاج , وما عندى صحة أشتغل واصرف عليهم لأنى أصلا مريض من عشر سنين وبأجل علاجى , وما عاد عندى جنيه أشترى بيه بسكوتة لبنتى .. أبيعها يعنى .. أبيع بنتى ؟! " وأمام صرخات يوسف وبكاؤه وشروعه فى تمزيق أوراق الأشعة وملفات بنته وزوجته الصحية أوشكت الكاميرا أن تسقط من يد نوارة ولم تتمالك نفسها من النحيب والبكاء .. أما زينات الفلسطينية الأصل فقد أطلقت لنفسها العنان لدى وصولنا إلى حدود رفح المقابلة لغزة فهرولت لتعتلى احدى التلال الرملية وتصرخ بأعلى صوتها وتقبل الأرض : غزة.. شايفاكى يا يما !
حاولت زينات تهريب قدراً محرماً دولياً من فرحتها الممزوجة بالألم فتحدثت إلى والدتها عبر الجوال فتحول المشهد إلى صورة أكثر دراماتيكية.. فقد بكت زينات وبكت والدتها التى أصرت على محادثتى وبصوت متهدج أخذت توصينى بزينات وبنفسي فدمعت عيناى أنا الأخرى !
زميلتنا الناشطة " ندى "كانت تجلس فى مؤخرةالحافلة , فتحت الشباك المجاور لمقعدها وقفزت لدى قربنا من المعبروتوقف الحافلة وانطلقت صوب الجانب الآخر ولم يوقفها سوي صرخات أحد البدو المارين :" يا مجنونة وقفى هناك حرس ح يطخوكى " .
أما إيمان بدوى فقد أتعبت فكرها وأدمعت عيناها كثيراً وهى تنظر إلى القدر الضئيل من المال والمعونات الغذائية التى حملناها مقارنة بحجم المأساة , إلا أنها لا زالت تؤمن بأنه لابد من الإستمرار و بأن النشاط الشبكى " الإنترنتى " هو أسلوب "للتحرّك السلمي العملي" وأنه من الممكن أن يكون خط دفاع فاعل عن ا لحرية، والكرامة،والوطنية ,والعدالة، والجهر بالحقّ، والتناصر في المعروف،وأنه يمكنه أن يمثّل خطرا على الاستبداد والاستغلال والفساد والقهر .
" البحث عن عالق بالإنجليزية" كانت هذه هى مهمتنا التالية لمساعدة زميلتنا هديل( العراقية – المصرية) الأصل و مراسلة الإذاعة الكندية .. أخذت هديل تدخل المخيمات وتنادى بأعلى صوتها : " فيه حدا هون بيحكى انجلش ؟" .. فى البداية لم تجد ولكن الوقت يسرقنا ولابد من التحرك ..توجهت هديل بميكروفونها إلى " ياسر" شاب فى الثلاثينيات من العمر كان ينتحب هو الآخر قائلاً" ما حدا حاسس فينا .. أنا عاجز أحمى زوجتى وأختى وبنتى .. عاجز أوكلهم وأشربهم .. السحالى والفئران بتعدى على روسنا واحنا نايمين فى الليل .. ناس تخوتها – أى أسرّتها - جزاز " زجاج " واحنا تخوتنا الرمل ؟! "
بعدها أخذت هديل تسألنا العون ثانية قائلة : " يا جماعة أرجوكم لو لقيتوا أحد من العالقين يتحدث الإنجليزية ضرورى تدلونى عليه " وبالفعل عثرنا بالكاد على شابين أحدهما طبيب والآخر الشاب القادم من البعثة من بريطانيا .
أما زميلتنا دينا مراسلة " الديلى ستار أوف ايجبت " فقد افترشت الأرض إلى جوار أنجاد وسهى .."أنجاد" زوجة فى العشرينيات من العمر تقول " ولادى ثلاثة هناك يا أختى منهم اتنين توأم رضع وأنا جيت للعلاج .. بدى أروّح لولادى .. يا ريتنى أموت حتى أروّح .. اللى بيموت بتروح جثته يا أختى والأحياء لأ " ثم أخذت تهذى مرددة :" اللى بيموت يروّح .. اللى عايش لأ" !
أما " سهى " 35 سنة فقد صرخت قائلة : " ليش بيعملوا لنا مخيمات.. إحنا مش ح نرّوح .. والله هاى مؤامرة.. أنا عندى بيت .. احنا ولاد ناس أحنا قوادم !
وأخيراً ولأنها لا زالت تؤمن بـ " الحلم العربي " فقد بدت الزميلة الصحفية نور الهدى زكى هادئة كعادتها .. متماسكة, ممسكة بقلمها وأوراقها لا تغادر رسم الأحاسيس ونقش تعابير الوجوه العالقة تماماً كأصحابها !
استقلينا الحافلة مرة أخرى للذهاب إلى مقر آخر للعالقين برفح وأثناء مرورنا شاهدنا أهالى رفح يشعلون النار فى بعض اطارات السيارات فى مظاهرة احتجاجية على طردهم من مساكنهم .. لم نفهم الأمر توقفنا ونزلنا وتحدثنا إلى بعضهم .. كانوا يصرخون .. "إنهم يريدون اقتلاعنا من بيوتنا , يقولون لنا هذه ليست أرضكم وبدل البيوت ح نعطيكم تعويضات " وكانت المفاجأة أن هناك اجراءات معاينة تجرى على قدم وساق لإزالة بيوت سكان رفح الممتدة على عمق 3 إلى 5 كم من الحدود حتى الداخل .. أهالى رفح يقولون أن هذا الإجراء هو اجراء أمنى بسبب الأنفاق الممتدة تحت هذه البيوت والتى تهدد الكيان الصهيونى , أما العالقين من الفلسطينيين فيفسرون ذلك بأنه التوطين مقابل اهدار حق العودة .. ولا أحد يعلم أين الحقيقة .. الحقيقة الوحيدة الماثلة أمام أعين الجميع هى هدم بيوت على مراحل ومظاهرات احتجاجية بالمقابل !
عدنا بالفعل مرة أخرى إلى مجموعة من العالقين " ورايا 12 ولد وبنت يا بنتى والله بغزة .. مين يودينى لهم ؟ لازم أرّوح لهم جثة يعنى ؟ والله احنا هنا جثث أحياء .. جثث أحياء " هذه هى كلمات أم خالد سيدة فى الخمسين من العمر ..
" صورينى يا خالة .. صورينى " .. ببراءة وعفوية ينادى و يجرى "جاسر" 9 سنوات خلفي يطلب أن أصوره ثم يكمل " احكى معى .. أنا بدى اتكلم خالة .. أنا كنت بالعمرة مع أبوى ووالله أنا شاطر وما بدى أظل هنا وتفوتنى المدرسة !"
" انصرونا يا بنات " هكذا نادت علينا الحاجة فتحية , سيدة عجوز فى السبعين من عمرها تقول " والله مليح الصحافة تنصرنا .. صورونا يا بنات قولوا للعالم يصحى , والله كل ما تيجى صحافة يخبونا منهم تخباية .. خايفين نتكلم ؟! قولولهم أننا بدنا نرّوح .. بناتنا بتولد تحت الشجر وتموت بالحمى وتتيتم الصغار .. هذا ظلم .. حرام !
وتنقلنا سمية 25 عاماً إلى أجواء ساخرة تقول : والله نسيوا يجيبوا لنا سمن ودقيق وسكر وعجوة حتى نعمل كحك العيد بعد رمضان اللى راح نصومه هنا !
وتستطرد فتقول : كتر خيرهم بيرسلوا لنا وجبات تسبب لنا التسمم والقئ والإسهال بسبب الحر والإهمال , وجبة اليوم نظل منتظرين وصولها الظهر لكنها تصل فى العاشرة مساءاً .. ونظل فى الطابور حتى هاى اللحظة وبعدين نوكلها ونروح ع المستشفى اللى بلا تعقيم أصلاً.. المريض بيموت , والسليم بيمرض ومسيره يموت .. كتر خيرهم والله !"
تنقلت بنا الحافلة بين تجمعات كثيرة للفلسطينيين فى الأحراش , حى الصفا , حى النور , حى الإمام على , الشيخ زويد , فندق السلام .. القصص الإنسانية تكفى كتباً وليس مقالات هنا أو هناك هذه هى الحقيقة المرة وكأنه كتب علينا أن تكون أغلب أحداثنا ولحظات حياتنا انجازات مأساوية واختراعات تعذيبية !
أصابنا الدوار من اللف والدوران فنصحنا البعض بضرورة زيارة الشيخ عبد القادر الغلبان "مختار"- أى عمدة - الفلسطينيين , وبالفعل توجهنا إليه .. شيخ مسن يقيم بالمكان منذ 27 عاماً, و يأوى فى بيته 250 من العالقين فى بيت متهالك بسيط ..الجميع ممن يفترشون الأرض تجمهروا حولنا أثناء حديثنا معه .. وجه مناشدة حارة لجامعة الدول العربية وللرؤساء العرب للتحرك وإنقاذ من بقي من العالقين , ووصف الأمر بأنه مؤامرة عربية حولت الشعب الفلسطينى إلى شحاتين ومرضي ومتسولين .
وهنا هب أحد الرجال مقسماً بالله أنهم – أى العالقين –يعتزمون اقتحام المعبر إن لم يتم فتحه يقول " والله لندب نفسنا ع المعبر دب ويضربونا بالنار ما بيهمنا .. خلينا نموت شهداء أفضل من ميتة الهوان هاى !" .
(يا ليل ما أطولك .. مشيتنى حافية
ميزان ما أتقلك .. هديت لى كتافى
دابت حشيشة قلبى لأجلكم.. دابت
والشعرتين السود يا يما.. بروؤسنا شابوا !)
هكذا جاء صدى صوت" ريم بنا" وهى تنشد " يا ليل ما أطولك " .. نعم "الليل هنا طويل .. طويل جداً " هذا هو ما شعرنا به جميعا ًحينما جن علينا الليل وليس شعور العالقين فقط .. ربما لأنه ليل ظلم , ليل جوع وعطش وخوف , ليل مهانة وانكسار , ليل الفلسطينيين .. ربما !
ربما كان الليل أيضاً مؤذناً بانتهاء مهمتنا , لكنه فى حقيقة الأمركان مؤذناً ببدءها , فما انتهى هودور مرحلى .. خطوة .. لابد أن تليها خطوات أوسع وأشمل ,وربما تكون قضية العالقين هى التى فجرت شرارة هذه الخطوات .
فقد انتهينا جميعا إلى حقيقة مفادها أننا في واقع مرحلتنا الخطيرة الراهنة،علينا أن نجسّد نقلة نوعية واجبة علينا جميعا، من لديه انتماء فكرى أم لا ومن له موقع يتحرّك منه أم لا، وهي النقلة التي تتطلّب منّا جميعا أن نطرح قضايا الإنسان ومستقبله، وقضايا الأمة ومصلحتها العليا، فوق سائر الانتماءات، وأنه يتعين علينا أن نتجاوز سائر الذرائع و العوائق والعراقيل .
وأنه لابد من التحرّك الشعبي والأهلى بالإمكانات المتوفّرة التى يمكنها أن تتطور بالإيمان والإخلاص والجهد والمثابرة، فتتجاوز الاعتبارات الشخصية الفردية، والعصبيّات الانتمائية، وإن ذلك كله من شأنه أن يجعل التحرك متميزاً لمن قاموا به ومنشطاً لمن لا تزال تقعد به همته وهواه !
إيمان وزينات ونور الهدى ونوارة وهديل ودينا ونيرمين وندى ورشا وأسماء وكاتبة هذه السطور, بالإضافة إلى وائل وسمير ومحمد وعبد الرحمن .. على اختلاف الأفكار والأيدولوجيات جمعنا الولاء للدين والوطن والأمة,للإنسان المقهور في عصر انتشار الاستبداد والاستغلال والفساد، والأنانيات والعصبيّات.. و نحسب أننا بهذا الولاء مثلنا الكثرة الكاثرة من أبناء أمّتنا وبناتها، أضعاف ما يمثلّه حزب أو منظمة أو جماعة أو هيئة،واستطعنا صنع تشكيل يضع الولاء المشترك لما تقتضيه المصلحة العليا هو ..الأساس.. وبدون ذلك سيظل العالقون عالقين وسنلحق بهم أجمعين !