رغم بعد المسافات واختلاف العادات واللغات والثقافات، إلا أن الإنسان لا يشعر بالغربة أبدا أينما ذهب إن كان مع أخوانه المسلمين وأخواته المسلمات، فواحدة هي الأهداف والرؤى والهموم والمعتقدات.
يسّر الله عز وجل لي زيارة إلى ملتقى المحيطين الأطلسي والهندي وملتقى الشعوب (جنوب أفريقيا)، فكانت رحلة ثرية خرجت منها بالعديد من المعلومات والخواطر.
ينحدر سكان جنوب أفريقيا من أصول مختلفة، فهي أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان ذوي الأصول الأوروبية وتحتضن أكبر تجمع هندي خارج آسيا بالإضافة إلى الأغلبية الأفريقية، ويتمتع المسلمون هناك بكل حرية لممارسة شعائرهم، فالمساجد في كل مكان ورؤية المسلمات الملتزمات بالزي الشرعي أمر اعتيادي، أما المطاعم التي تقدم الأكل الحلال فمنتشرة جدا خصوصا في مدينة (ديربن) الساحلية حيث يكثر المسلمون. ومن المفرح أن المسلمين قد استغلوا الحرية المتوفرة لهم إيجابيا، فقامت العديد من الجمعيات الإسلامية الدعوية منها والخيرية مثل (حركة الدعوة الإسلامية) التي تنظم المحاضرات والأنشطة تطبع الكتب الدينية بلغات مختلفة للتعريف بالإسلام، وتقيم بالمساجد حلقات تحفيظ القرآن ودروس اللغة العربية، ومن أنشطتها رعاية الأسر الفقيرة وإقامة عيادة طبية تقدم الخدمات الصحية للمحتاجين بأسعار رمزية.
ولم تغفل تلك الجمعيات عن إقامة البرامج الاجتماعية لتقوية الروابط بين أفراد المجتمع المسلم الذين ينحدرون من أصول مختلفة منها الهندية والإندونيسية والإفريقية والأوروبية، بل تميزت في ذلك، وقد حضرت نشاطا للأخوات احتوى على عرض للأزياء الإسلامية للتأكيد على عدم تعارض الالتزام مع الأناقة، وسعدت لمدى الترابط والتواصل بين أخواتنا هناك ودورهن الإيجابي في المجتمع. ولله الحمد فقد أثمرت تلك الجهود ثمارها في زيادة تمسك الجيل الجديد من أبناء المسلمين بدينهم، وقد روي لنا عن إقامة حفل مؤخرا للاحتفال بإسلام عشرات من أهل البلد والذين كان معظمهم من البيض، مما يؤكد على مساواة الإسلام بين الجميع وأنه هو السبيل لإيجاد التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وإن كان ذلك في بلاد طالما عانت من العنصرية.
ومما يثلج الصدر أن المسلمون هناك يهتمون اهتماما شديدا بتربية أبنائهم التربية الإسلامية الصحيحة، ويحرصون على إلحاقهم بما أطلقوا عليه كلمة (المدرسة) التي ينطقونها باللغة العربية، حيث يذهب الأطفال إليها كل يوم بعد الانتهاء من المدرسة التقليدية ليحفظوا القرآن ويتعلموا الفقه وأصول الدين، فالانضمام للمدارس الإسلامية الخاصة قليلة العدد أمر لا يقدر عليه إلا الموسرون. ولا يملك الزائر لجنوب أفريقيا إلا أن يردد (سبحان الله)، فكل ما يحيط به هناك يعكس قدرة الخالق سبحانه وروعة خلقه من جبال ومحيطات وأنهار وأشجار ونباتات، فجنوب أفريقيا ليست من المناطق الصحراوية القاحلة – كما قد يظن البعض - بل أرض خضراء تتمتع بجو بديع معتدل في أحيان وبارد في أحيان أخرى، وصدق علمائنا حين قالوا قديما أن (الكون هو المصحف الصامت والقرآن هو المصحف الناطق) و أن ( الكون هو الكتاب المنظور، والقرآن هو الكتاب المسطور).
ومن أهم ما لفت نظري هو التطور المعماري والحضاري في تلك البلاد، حتى باتت كإحدى الدول الأوروبية المتقدمة بشوارعها الحديثة ومبانيها العالية وحدائقها الفسيحة، ونجحت باستقطاب السياح من شتى أنحاء العالم وجعلت من السياحة إحدى أهم مصادر دخلها، كما أنها رائدة باستخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، ويجدر هنا التساؤل عن سبب تفوقها عن جاراتها من الدول الأفريقية الأخرى رغم امتلاك الجميع للموارد ذاتها. ورغم ذلك التقدم لم تخلو جنوب أفريقيا من أماكن يعاني سكانها من الفقر الشديد، ففي ضواحي بعض المدن يمكن أن تشاهد مدن الصفيح على مد النظر، حيث يعيش غالبا المهاجرون غير الشرعيون القادمون من زمبابوي وغيرها دون تعليم أو عمل أو طعام أو ماء في منازل ضيقة ومتلاصقة لا يتعدى حجم أحدها بضعة أمتار، ويعتمدون على مد الأسلاك لأبراج الكهرباء الحكومية للحصول على الطاقة دون العبء بخطر ذلك أو بالمساءلة القانونية، مما ذكرني بما يفعله البعض من المخالفين في الكويت!
وقد شكلت المواقع التاريخية المرتبطة بالعنصرية جزء غير قليل من الأماكن السياحية، فقد أخذ النزاع العرقي بين الأقلية "البيضاء" وبين الأكثرية "السوداء" و"الملونة" حيزا كبيرا من تاريخها، فيمكن للزائر أن يزور جزيرة (روبنز) التي كانت معتقلا للسجناء السياسيين ومنهم رئيس الدولة السابق نيلسون مانديلا وتحوي قبورا لبعض قادة المسلمين، كما يمكنه مشاهدة - في ما يعرف بـ (الجادة السادسة) - أراض شاسعة خالية كانت في يوم من الأيام مدينة مزدحمة نابضة بالحياة عاش فيها السكان "السود" و "الملونون" قبل أن يطردهم البيض لمناطق أخرى، والجدير بالذكر أن جميع مباني تلك المنطقة قد هدمت وسويت بالأرض باستثناء المساجد والكنائس.
إلا أنه من المؤسف ملاحظة عدم الاهتمام ببيان تاريخ الإسلام المشرق في جنوب أفريقيا ودور المسلمين المؤثر في تحرير البلاد من النظام العنصري، ففي مدينة (كيب تاون) يوجد متحف صغير من أربعة غرف عن الإسلام لا يكاد يعلم عنه أحد، بينما وضعت الشركات السياحية هناك على جداول أهم معالم المدينة التي تحرص على أخذ الزوار لها متحفا عن اليهود و(الهولوكوست)! وهو متحف حديث وضخم يبدو كالقلعة المحصنة!
جنوب أفريقيا نموذج مميز في التعايش السلمي والتطور ومجال الحريات يستحق البحث والدراسة، كما أن زيارتها تجربة فريدة توسع الآفاق.
لا أملك في النهاية إلا التعبير عن التقدير لجميع الأخوة والأخوات الذين التقينا بهم هناك وبالأخص فريق (حركة الدعوة الإسلامية) وعلى رأسهم الدكتور إبراهيم دادا وأسرته الكريمة، وأسأل الله تعالى أن يجعل جهودهم لخدمة الإسلام والمسلمين في ميزان حسناتهم.
_________________________________
تم نشر هذا المقال في جريدة الحركة في 29/10/2007