وعلى الطريقة العربية ..تفكير في بيان للشجب والتنديد والندب واللطم يمكن رفعه لممثلي الأمم المتحدة في مدريد !! ، إرسال رسائل إلى السفير الفلسطسني ، وإلى غيره من سفراء العرب والغير عرب ، طلب إذن بالتظاهر أمام السفارة الأمريكية أوالاسرائيلية للخروج للمرة الألف لنهتف هناك كما نفعل دائما في هذه المناسبات المتكررة التي يبدو أن لانهاية لها : "هذه السفارة إنها ملطخة بالدماء " ، وعلى الرغم من أن هذا الشعار يبدو ممجوجا بعد ترجمته إلى العربية لكنه باللغة الاسبانية يبدو في أفواهنا أغنية ذات سجع وقافية عندما نردده بالاسبانية أمام أبواب السفارة المذكورة !
سيحمل الشباب العلم الفلسطيني الكبير الذي لاأدري من أين حصلوا عليه بهذا الحجم الذي يتجاوز فيه طوله الثلاثين متراً على طريقة "أثنار" في نشر الأعلام الاسبانية بالحجم الكبير جدا في كل مكان لإثبات إسبانيةِ إسبانيا! ، يهزون العلم الفلسطسني ، وينشدون...ماذا ينشدون ؟ في آخر مظاهرة خرجنا إليها كادت تنشب هناك مشكلة بين أنصار حماس وأنصار فتح ، وماكنت أعرف قبل ذلك أننا في مدريد مصنفون إلى قسمين وفسطاطين !! الأناشيد هي التي صنفتنا !! ، كانت في آخر مرة إلى جواري أستاذة في العلاقات الدولية في جامعة الكومبليتنسة ، وكانت تضع الكوفية على كتفيها وتهتف لفلسطين الحرة ، وغيرتُ الهتاف وصحت بأعلى صوتي : لانريد هولوكاوستو آخر ، صمت الجمع لحظة ثم رددوا هذا الهتاف الغريب ، فبالنسبة للجميع لايوجد إلا هولوكاوستو واحد ، هو هولوكاوستو اليهود المساكين المظلومين المذبوحين على أيدي النازية ، ولايجوز بحال من الأحوال أن يتعدى أحد على حقهم في احتكار الهولوكاوستو حتى لو كانوا هم أنفسهم الجزارون القتلة المتوحشون هذه المرة!
لكن الجمع المتظاهر من إسبان وعرب عادوا بعد لحظات إلى الأناشيد التي فرقتنا ، همست الأستاذة في أذني قائلة : وضع العرب محزن!.
إذا كان لما يجري اليوم في غزة أي علاقة بموضوع حماس ؟ فبأي ذريعة دمرت اسرائيل من قبل بيت حانون ، ومحت قلب جنين من الخارطة ، وأجرت وتجري عمليات "تقبيح" جراحية بالغة الخطورة للقدس المقدسة ، وكادت تستأصل بيت لحم من التاريخ؟! ، يوم جاءنا نبأ فوز حركة حماس في الانتخابات ، كنت في اجتماع لتجمع الشباب المسلم في مدريد ، وهي منظمة ثقافية ذات أهداف فكرية تربوية خاصة بأبنائنا من الجيل الثاني ، فرح بعض الشباب وكبروا ، ولكن الخبر وقع عليّ كدلو من الماء البارد ، ولم يفهم الشباب ، كانت فرحتهم بفوز حماس كبيرة ، لأن حماس في ذلك الوقت كانت تعني أحمد ياسين ، وتعني الثورة ، و الكفاح والتحدي ، والشموخ والصمود في وجه السرطان الذي يفتك بالأمة ، وتعني الانتفاضة ...واستمرار الانتفاضة بذلك الزخم الهائل الذي تسرب إلى أعماق الناس فزرعها بالأمل وبرهن لهم على وجودهم وعلى أنهم مايزالون أحياء.
الذي لم يفهمه الشباب من الجيل الثاني في مدريد يومها هو أن انتقال الحركات الشعبية المناضلة إلى كراسي الحكم كان دائما ينذر بالكوارث .
المسألة اليوم ليست مسألة حماس وفتح ، وكلاهما قد أخطأتا وارتكبتا جريمة لاتغتفر بحق الأمة كلها في هذا الانقسام الذي حدث في فلسطين ، فقد أجهضتا بهذا الجرم التاريخي بريق الأمل في قلوب شباب الأمة بانتفاضة الأقصى المباركة التي لم تقتصر على حدود فلسطين التي تمتد من برادات حفظ جثامين الشهداء في المشرحات إلى أََسِرَّة الألم المغطاة بدموع الأمهات في المستشفيات !!، كلاهما لم تفهما أن مايحدث في فلسطين يهز الأمة من أقصاها إلى أقصاها ، ويؤثر في الأمة وفي سلوك شبابها وأطفالها ، ليس في المنطقة العربية فحسب بل من اندونيسا وحتى باريس !، كلاهما لم تفقها أن قتل أحمد ياسين ووفاة ياسرعرفات المشبوهة كان يجب أن يمنحهما درسا لم تفهماه ولم تحتملا الصبر عليه.
الإعلام العالمي يمارس تعتيما مذهلا على مايجري في غزة ، لاأبالغ وأنا أسجل هنا أن خبر مايجري في غزة لم تتجاوز مدة عرضه ربع دقيقة واحدة في نشرات الأخبار الرئيسية في قنوات البث التلفزيوني الاسبانية ، لاأحد يريد هنا في اوربة أن تعرف الشعوب الأوربية ما يحدث ، لاأحد يريد ان تمتد الانتفاضة إلى شوارع أوربة من جديد وأن تنتشر الكوفية شعارا لمناصرة فلسطين في شوارع مدريد وباريس ولندن من جديد ، الأوربيون وصناع الرأي يتعلمون الدرس ببلاغة وفقه عالييّ الجودة ، تقتصر أخبار غزة على الصفحات الداخلية في الصحف ، وبعض الدقائق المخصصة للموضوع في برامج الحوارات السياسية الصباحية أو المسائية التي لايكاد يسمعها أحد ، وينحصر الشعور بالكارثة في أروقة كليات الدراسات الاستشراقية والاسلامية ، وبعض من تبقى للعرب والمسلمين من أصدقاء مخلصين .
المنطقة العربية تغلي بالقهر ، والاعلام العربي الرسمي منشغل بعرض رقصات السيد بوش مع أحبابه و" حلفائه" واهتزازه طربا وهو يحمل سيوفنا العربية المزيفة التافهة التي لم تعد تعني أي شيء لأي أحد في هذا العالم!! ، وقنوات الرقص ماضية في نشر العهر بين بناتنا وقد أصبحت "الساقطات" فيها قدوات للجيل الصاعد ، الإعلام الغربي يعتم على القضية ، ووحدها الجزيرة والحوار وبعض القنوات الاسلامية واقفة على هذا الثغر الأليم ، هذا الثغر الصعب المرير ، ثغر الحق ، الذي لن أملّ من تكرار يقيني بأنه لن ينقلب إلى باطل قط ولو وقفت الدنيا كل الدنيا ضده .
تنادَينا إلى لقاء كبير للجالية في مدريد في أحد المراكز العربية الخاصة بالجالية مساء السبت تضامنا مع أهل غزة ، أكثر من 90 ساعة من المباحثات المضنية لإقامة مثل هذا الحفل التضامني ولم تصلنا الاجابة حتى ساعة كتابة هذا الموضوع ، لايسمح بجمع التبرعات ، لايسمح بذكر أي من الفرقاء ، لايسمح بالحديث في أية لغة قد تستعمل فيها مفردات قد يظن فيها النية الإرهابية ، لايسمح ..لايسمح...لايسمح .. الهدف الوحيد من إقامة هذا الحفل التضامني كان أن نعلم أطفالنا في مدريد معنى الانتماء إلى هذه الأمة ، معنى أن يشاطروا إخوانهم من أطفال غزة الألم!!. واندفع أهل القضية = ونحن مازلنا ننتظر الإذن بإقامة حفل تضامني مع أهل القضية فحطموا الحاجز على معبر رفح ، وبقيت الأيدي الصغيرة التي تحمل تلك الشموع تنير الطريق ، تنير الليل الرهيب الذي تنغمس في حلكاته الأمة ، وبقي أهل فلسطين ...وسيبقون الأمل والمشعل وورثة الأنبياء الذين يصبرون على الجراح ولايتنكبون عن رسم معالم الطريق لمن سيأتي بعدهم .
__________________________________________
المقال نشر في صحيفة العرب القطرية .