جرت العادة في العمليات الاقتصادية أن تقوم الدولة إما بتصدير السلع المحلية وبيعها بالخارج , أو استيراد السلع الخارجية وبيعها في الداخل , أما ما تقوم به دولنا الإسلامية اليوم فهو أمرٌ مُبتكر وعبقري لم تقم به أي دولة أخرى , ولم تسبقها إليه أي أمة متحضرة ! فنحن نقوم بتصدير سلعنا الإسلامية إلى الخارج ثم استيرادها مُجددًا, والترويج لها في الداخل بعدما نكتب أسفلها صُنع في أمريكا أو تم الصنع في أوربا أو حتى في تايون, وبيعها بأغلى الأثمان , والتسويق لها بأكبر الحملات الإعلامية والكلامية والصُحفية والمؤسسية والنقابية !

عندما تكون السلعة الإسلامية تحت أعيننا وفي متناول أيدينا نـُعرض عنها , ولا نجدها ذات قيمة أو معنى , بل هي مُجرد وصفات منقوشة على صفحات الكُتب , أو آياتٌ مُزخرفة على صدرِ المُصحف , أو عبارات مُترددة على المنابر في خُطبِ الجُمع والأعياد , سلعٌ رثة ٌ قديمة , لا تستحق شرائها أو الاستفادة منها .

ففي زمنٍ ما وفي بقعةٍ مُباركةٍ من الأرض كانت تعيش قبائلٌ مُتفرقةٌ ومتمزقةٌ مُتعاركة , سادت بينها الضغائن والأحقاد , وانتُهكت فيها الحُرمات والحقوق , وضاعت فيها المعاني الإنسانية , القوي يلوك الضعيف ويمضغه , والغني يسحق الفقير ويستعبده , والرجل يملك المرأة ويُوَرّثها كمتاع بيته , كانت التجارة بتلك السلع رائجة في مُحيط شبه الجزيرة , ولكنها كاسدةٌ لم تُصَدّر لما حولها من البلاد , إلى أن جاء الإسلام وعرض سِلعه على أهل تلك البقاع , فاشتروها بثمنٍ غالٍ نفيس , دفعه البعض بدمائه والبعض بدياره وأهله والبعض الآخر بأمواله , فلاقت رواجًا أكبر , وسحقت السلع الجاهلية , وحققت ما لم تُحققه سالفتها من نجاحٍ وازدهار , فأحدثت ثورة ً اقتصادية ً كُبرى , اكتسحت ما يعلو البلاد في شمالها وما يحدوها من شرقها وغربها وما يليها في جهة الجنوب , كانت تلك السلع تُصدّر من عاصمة الدولة الإسلامية , فتملأ الأسواق الفارسية والشامية والعراقية والإفريقية والأوربية والصينية والهندية , ويُقبل عليها الناس بنهمٍ وشغف .

لم تكُن التجارة الإسلامية حين ذاك تجارة مواد غذائية , أو أسلحة حربية , أو أجهزة إلكترونية , أو موضة وصرعات شكلية , بل كانت تجارة قيم ومبادئ وأسس ثابتة , تجارة إنسانية بحته , وإيمانية عميقة , وروحانية عالية , تجارة نُظم إدارية وسياسية , قواعد وقوانين حياتية مُهمة , تجارة ُ أخلاقٍ وصحةٍ وعلمٍ وارتقاء !

كانت الدُول الخارجية تفتح ذارعيها لهذه السلع , وتسعد باستيرادها , وتستفيد منها أكبر استفادة وتجني من ورائها المنافعَ الكبيرة , إلى أن توقفت الدول الإسلامية عن إنتاج هذه السلع , وأصاب مصانعها العطب , وعامليها الكسلُ والتعب , وأرخت حبالها الاقتصادية المتينة , فأصبحت لينة مُتراخية لا تقوى على المُنافسة , اختفت تلك السلع من الأسواق المحلية , وما عادت تُتداول بكثرة بين المواطنين , إلا أن المخازن كانت مليئة بها دون أن يبحث عنها أحد أو ينفض الغبار عنها .

 

وأما الدول الخارجية التي صدرّنا لها هذه السلع في الماضي , فقد احتفظ بها وتشبثت بأوصالها وقامت بتطويرها وتمدينها وعمل الإضافات الكثيرة عليها , وترتيبها وتنميقها وإطلاق مسميات جديدة عليها لطمس ملامحها الإسلامية , بل حتى الدول التي لم تصلها سلعنا في ذلك الزمان المُنصرم كانت ترسل بأبناء جلدتها إلى دولنا ليتعلموا صناعتنا ولينتجوا في ديارهم مثل سلعنا .

ونحن اليوم نستورد منهم تلك السلع التي صدرناها لهم في يومٍ ما !

فالكُليات الخمس التي حفظها الإسلام للإنسان أيًا كان , امرأة ً أم رجلا , طفلاً أم شابًا أم كهلاً , حرًا أم عبدًا , عربيًا أم أعجميًا , أبيضًا أم أسود أم أصفرًا , مسلمًا أم كافرًا أم نصرانيًا أم يهوديا , وهي أولاً (الدين) الذي تندرج تحته الكثير من الحريات مثل حرية التعليم والتعبير والاختيار والاعتقاد , وثانيًا (النفس) والتي تندرج تحتها الحق بالحياة وحرمة الدم والإبادة الجماعية , وكفالة الحياة الكريمة للإنسان , وعدم التمثيل به والإضرار بجسده , وثالثًا كلية (عقل) والتي تشمل حرمة الاعتداء على عقل الإنسان , وتحريم كل ما بدوره أن يودي بعقله ويقلل من شأنه , والحرص على تنميته والاهتمام به وبتثقيفه وتعليمه , ورابعًا ( المال) والذي يشمل حق الإنسان بالتملك وكسب المال والتجارة , والحصول على موردٍ للرزق , وتحريم الاعتداء على ماله بالسلب أو السرقة أو الانتقاص منه بغير وجه حق , وأخيرًا (النسل) والنسل قد اهتم به الإسلام كثيرًا حيث قننه بأطر الزواج الشرعي , وحث على التكاثر وزيادة النسل , بشرط أن يحسن الأبوين معاملة الأبناء وتربيتهم والاهتمام بهم ليكونوا أفراد صالحين أسوياء أصحاء , هذه الكليات الخمس أنتجها الإسلام وصدرها في يومٍ من الأيام , ونحن نستوردها اليوم باسم حقوق الإنسان , حق الحياة , حق الاعتقاد , حق التعليم , حق التملك , حق الطفل وغيرها من الحقوق التي تعج بها المعاهدات العالمية وتصدح بها جمعيات حقوق الإنسان , وللأسف أصبحنا نقتبسها من المواثيق الغربية وننسبها إليهم , ونسعد باستيرادها منهم , ونطير بها فرحًا , ونتغنى بكونها مبادئ أكتشفها الغرب وجلبناها منهم , وهي بالأصل مبادئ إسلامية أصيلة في ديننا الحنيف .

إني أرى أن ننشئ جمعيات إحياء المبادئ والأفكار الإسلامية التي بين أيدينا وفي كُتبنا وقرآننا, أفضل من أن ننشئ جمعيات استيراد المبادئ والأفكار الإسلامية من الخارج بصبغةٍ غربية قد لا تُناسب مجتمعنا .

ولم تقتصر مصانعنا الإسلامية على إنتاج السلع الإنسانية , بل تعدت ذلك بروعةِ البر والتفنن بالإحسان , عندما أنتجت حقوق الحيوان , وأدخلت رجلاً الجنة في كلبٍ سقاه , وامرأةً النار في هرةٍ عذبتها , ومن روائع إسلامنا أنه في أحدى الحُقب الإسلامية كان هناك وقفٌ للقطط , ووقفٌ للحيوانات الضالة , واهتمامٌ بالغٌ في رعايتها وإطعامها إلى أن يتعرف عليها أصحابها أو يستفيد منها المسلمون في مأكلٍ أو ملبسٍ أو سفر , والقصصُ كثيرة , والمقامُ هنا لا يتسع , ولعل أبرز كلمةٍ نستشهد بها في هذا الموضوع , كلمة ُ رسولنا الكريم والذي ملأ الدنيا إحسانًا وبرًا حين رأى رجلا يشد بعنف حيوانًا ليضحي به فقال له إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح , وإيصائه بعدم تحميل الحيوان فوق طاقته , وعدم تجويعه , وعدم إنهاكه بالسفر الطويل , ونحن اليوم ننظر بإكبارٍ وإجلال لجمعيات حقوق الحيوان الغربية , ونُطالب بإنشاء أمثالها في ديارنا , مُغمضين أعيننا عن تراثنا الرائد في هذا المجال .

وبعيدًا عن حقوق الإنسان والطفل والحيوان , نجد إسلامنا سباقًا في مجال السلع الإدارية والسياسية , ومروّجًا للشورى التي صدرّناها للممالك القيصرية والكسروية , والتي ألبسوها اليوم ثوبًا أطلقوا عليه اسم الديمقراطية ونادوا الأنظمة الغربية لتبيع هذه السلعة في ديارنا بالمدافع والطائرات والقنابل !

 

وتميزت كذلك مصانعنا قبل أكثر من عشرةِ قرون بابتكار ما يطلقون عليه الآن اسم الفصل بين السلطات , ففي عهدنا الزاهر كانت الرآسة في يد الخليفة , يُشرف على مجرى الأمور ويوجه الشعب ويديره , والسلطة القضائية في يد القاضي العادل المتحلي بصفات الحلم والحزم والعلم والعدل , والسلطة التشريعية في يد الله تعالى الخبير بأمور العباد والبلاد والمتمثلة بالقرآن والسنة , والعلماء الأفذاذ الأفاضل الذين يسبرون أغوار النصوص ويفهمونها بعقولٍ نَيّرة , والذين يعتبرون بطانةٍ صالحة للخليفة والحاكم , يوجهونه حين يخطئ ويجيبونه حين يستشير , والحاكُم نفسه كان فردًا من أقراد الشعب , له ما لهم وعليه ما عليهم , يحاكمونه ويقتصون منه , ويحاكمهم ويقتص منهم .

ونحن اليوم فرحين بما لدى الغرب , ونقتبس فكرة الفصل بين السلطات , والمساواة بين الأفراد من فقيهٍ قانونيٍ فرنسي أو مفكرٍ أمريكي أو فيلسوفٍ يوناني .

ولم تتعطل آلاتنا عند هذا الحد , بل أنتجت المزيد والمزيد , في مجالاتٍ شتى , نذكرها على عُجالةٍ حتى لا نطيل الكلام فهو طويلٌ وذو شجون , ففي الوقت التي كانت تغرق فيه أوربا في زمن الظلمات , وتحارب العلم والتفكير والابتكار , كانت بلادنا العربية تتزاحم على بقاعها الجامعات والمدارس وحلقات العلم , ويتوافد عليها الطُلاب من أقاصي الأرض وأطرافها , فيحيون المكتبات , ويؤلفون المؤلفات ويترجمون الآثار والأخبار , ويدونون كل ما يسمعون من أفكار , يتكاثرون حول العلماء , وينهلون منهم العِلمَ صافيًا رقراقا , ابتكر أبنائنا فنونًا حديثة , من طبٍ وكيمياء وحساب , أبدعوا في وضع القوانين والأسس , وأنشئوا علومًا لم تكن معروفة من قبل , نشروا النور الذي كانت تطفئه الكنائس , وأخرجوا من أعماقِ العلمِ ما يحتضنه من دررٍ ونفائس.

كانت الجامعات الإسلامية مُقسمة ومتخصصة , وكان الطلاب كذلك متخصصين ومتقنين لعلمهم , إلى أن توقفنا نحن , وأكمل الآخرون المسير , وسبقونا بأميالٍ وأميال , فأصبحنا نستورد منهم اليوم ما صدرناهم لهم ذات  اليوم !

وامتدت صناعتنا لتشمل المجال الطبي والعناية بصحة الإنسان , فانتشرت المستشفات الحديثة في البلاد الإسلامية , وكان دخولها مجاني , يتوافد عليها المرضى من كل مكان لحسن تقسيمها ونظافتها وتفوق أطبائها , والعناية الفائقة والمُتميزة التي كان المرضى يحصلون عليها , حيث كان الطبيب لا يُسمح له بمعاينة المرضى إلا بعدما يقطع شوطًا كبيرًا في دراسة الطب وينجح في اختباراتٍ عدة , وكانت المستشفيات توفر غرفة ً خاصة وممرضٌ متفرغ لكل مريض , في حين كانت المستشفيات في بقاعٍ أخرى من الأرض يفترش مرضاها الأرض بجانب القاذورات والجرذان , فمجرد دخولها يجعل الصحيح سقيم , بعكس المستشفيات الإسلامية , وكان الأطباء المسلمون يتفننون في الأساليب العلاجية المادية منها والنفسية , ومن أراد الاستزادة في هذا المجال فليطلع على الكُتب والمؤلفات التي تناولت الطب في العهد الإسلامي الزاهر , فسيعجب مما يقرأ كما عَجِبتُ أنا وصُدمت من التطور الذي وصل إليه المسلمون في تلك الأثناء , واليوم ها نحن ندرس تقسيمات المستشفيات الغربية , ونتتلمذ على يد أساتذتها , لنستعيد ما صدرته مصانعنا ولكن مع بعض التطوير والإضافة .

ولن أتحدث عن الصناعات الأخلاقية والقيَمية , فلا أظن القارئ يغفل عنها أو يجهلها , فهي ولله الحمد مازالت مُتاحة في أسواقنا ونتداولها .

ولكن ما يحار له عقل اللبيب , ويعجب منه فكر الرشيد , أن أمة ً تملك كل هذه الصناعات والإنتاج الفكري الهائل , تتخلى عن موروثها , وتُجافي حضارتها , وتقطع المسافات الطوال لاهثة ً للحصول على ما بيد غيرها , فلا هي تستفيد مما تملك , ولا هي تصل لما عند غيرها

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية