تعتبر جمعية الهداية الإسلامية من بواكير الجمعيات الإسلامية التي قامت في سورية، وأول ما قام فيها من جمعيات إسلامية محاكاة لأخرى سبقتها إلى التأسيس في مصر؛ ووفقاً لقانون الجمعية الأساسي(1) فقد تألفت في دمشق في غرّة ربيع الأول سنة 1349 هجرية (الموافق لعام 1930 م.)؛ ولقد أوضح بيان التأسيس أن "طائفة ممن آلمهم ما أصاب المسلمين من الوهن والضعف، والتأخر والتقهقر، بسبب ما شاع بين أفراد الأمة من المعاصي، وفشا بينهم من الذنوب، اجتمعوا فعقدوا النية على محاربة ما حدث من البدع، ومقاومة ما تجدّد من الأهواء، قياماً بالواجب الشرعي، وانتصاراً للحق على الباطل .. وما هي إلا بضعة أيام حتى نالوا الرخصة الرسمية من الحكومة بتأليف جمعية تدعى جمعية الهداية الإسلامية".

ومن جانبه بيّن الشيخ علي الطنطاوي أن تأسيس هذه الجمعية إنما تمّ إثر أول زيارة قام بها إلى مصر عام 1928 م. واطلاعه هناك على قيام الجمعيات الإسلامية واتحادات الطلاب وكلاهما ـ كما كتب الشيخ الطنطاوي(2) ـ لم يكن معروفاً في الشام، فلما عاد إلى دمشق، وحضر لقاء دورياً لجمع من التجار وطلبة العلم، حدثهم عن مشاهداته في مصر، وعن إنشاء الجمعيات فيها، وأوجز لهم قانون "الشبان المسلمين" و"الهداية الإسلامية"، وحثهم على تأسيس شيء مماثل بينهم، فانتهى اللقاء إلى اختيار الحاضرين قانون جمعية "الهداية" واسمها، ولم يلبثوا وأن تقدموا لأخذ رخصة رسمية لها، وأعلن عن قيامها عام 1930 م. في ردهة المجمع العلمي العربي، بمحاضرة للطنطاوي نفسه(3)، فكانت ـ كما يقول الطنطاوي ـ أول جمعية إسلامية في سوريا(4).
 
 

الأهداف.. والوسائل

   أوضح قانون الجمعية الأساسي في مادته الثالثة أن غايتها "المحافظة على كل فضيلة، ودرء كل رذيلة، وبثّ الأخلاق الإسلامية الفاضلة"؛ ولقد أفادت المادة الثانية من بيان التأسيس الأول لجمعية الهداية بدمشق أنه "لا دخل لهذه الجمعية بالسياسة البتة"، وأنها ـ وفق المادة الرابعة ـ "تتوسل إلى أغراضها بالطرق الأدبية، فتنشئ نادياً لإلقاء المحاضرات الدينية والعلمية والأدبية، وتنشر بين الأهلين كل ما تدعو المصلحة إلى نشره، مع إلقاء الخطب في المساجد والأسواق والمجتمعات"؛ واشترطت المادة السادسة على العضو أن يكون "مسلماً، حسن السيرة، محافظاً على الآداب الإسلامية"؛ أما مجلس إدارتها فيتشكل ـ وفق المادة السابعة ـ من اثني عشر عضواً، ينتخبهم الأعضاء العاملون لمدة سنتين؛ ولقد أوردت مجلة "الفتح" أسماء أولاء الأعضاء المؤسسين على النحو التالي: أبو الخير الميداني، راشد القوتلي، عارف الدوجي، عبد الرزاق الحفار، عبد القادر شموط، عبد القادر العاني، محمد الكامل القصار، محمد توفيق عمار، محمد صالح العقاد، محمد صبحي الحفار، محمود ياسين، ياسين الجويجاتي(5).

   ومن جانبه أشار عبد الغني الأسطواني في مذكراته(6) إلى أن الشيخ أبا الخير الميداني هو الذي ترأس الجمعية، وأنها اتخذت مقراً لناديها جانب المجمع العلمي ومكتبة الملك الظاهر، وعدّد أسماء أعضائها المؤسسين الذين بلغوا عشرين من المشايخ وغيرهم، وأفاد أنه "وعند انتهاء سنة من تأسيسها جرى انتخاب الرئاسة ففاز الأستاذ نقيب الأشراف الشيخ سعيد الحمزاوي، وجميع أعضائها المؤسسين(7).

   وفيما أورد "تاريخ علماء دمشق"(8) أن الشيخ محمود ياسين، الفقيه المحدث، تلميذ الشيخ بدر الدين الحسني، قد ساهم في تأسيس "جمعية الهداية الإسلامية" وتولى رئاستها مدة عشرين عاماً تقريباً، فإن الشيخ علي الطنطاوي أشار إلى أن الحمزاوي تولى رئاسة “جمعية الهداية” في فترة الخمسينيات من القرن العشرين(9) .

   والحقيقة أنه ومن متابعة بيانات الجمعية وأخبارها المنشورة في مجلة "الفتح"، نلحظ أنها خلتْ في سنواتها الأولى من الإشارة إلى اسم أي من رؤسائها أو رجال إدارتها، ثم أخذت البيانات تصدر بتوقيع محمود ياسين، وذلك ابتداء من عام 1351 هـ.(10) من غير لقب أو صفة له محددة في البداية، ثمّ لم تلبث وأن أضيفت إلى اسمه صفة "الرئيس الثاني لجمعية الهداية الإسلامية في دمشق"(11) من غير تحديد اسم الرئيس الأول! وبعد سنوات لاحقة، أخذ اسم الشيخ محمد الكامل القصار يتردد في أخبار الجمعية كأمين للسرّ فيها(12)؛ أما الشيخ أبو الخير الميداني، وهو أشهر من أن يعرّف بين علماء دمشق وقتذاك، والذي ترأس لاحقاً جمعية العلماء، فيبدو أنه كان بمثابة "الأب الروحي" للجمعية، ويدلّ على ذلك قولة الشيخ علي الطنطاوي عنه وعنها، أنها ـ أي "الجمعية" ـ "التي يقوم بها ويقوم عليها شيخنا الشيخ أبو الخير الميداني(13)".   

انجازات متنوعة

   بدأت إنجازات الجمعية بإصدار بيانات ونشرات إصلاحية متنوعة، شارك الشيخ علي الطنطاوي في كتابة العديد منها، تضمنتها مجموعة أسماها "سيف الإسلام"(14)؛ ولقد كان إصدار الجمعية الأول الذي أعقب بيان تأسيسها كتاباً قدمته إلى مؤتمر الأوقاف الإسلامية في سورية ولبنان، عن حاجة دمشق إلى مدرسة دينية "تعنى بتدريس العلوم الدينية والفنون الشرعية تدريساً مشبعاً تلمس فائدته وتؤمن نتيجته .." وأن تكون هذه المدرسة "مصغّر الأزهر الشريف، مع اتخاذ قرار من الحكومة المحلية يقضي بأن يكون لخريجها حق التعيين في كافة الوظائف الدينية .. (15)" .

   ولقد تابعت الجمعية نشاطاتها الإصلاحية على مثل هذا المنحى، واهتمت معظم بياناتها ومطالبها بقضايا التعليم الديني في المدارس، وموضوع السفور والحجاب، وعدم تبرج المعلمات، ومنع المجاهرة بالإفطار في رمضان، ولكنها شاركت مع مثيلاتها من الجمعيات الإسلامية في قضايا أوسع جدّت ذلك الوقت، كالاحتجاج الذي رفعته إلى معتمدي الدول الإسلامية والأجنبية سنة 1352 هـ. ـ 1933 م. على "ما اقتُرف في فلسطين من قسوة لمنع أهلها عن الجهر بحقوقهم بسخطهم على اهتضامها"؛ والفتوى التي رافقته بالحضّ على مقاطعة "الصهيونيين وكل مؤذ للمسلمين، ووجوب ترك معاملتهم بيعاً وشراء.. (16)"؛ والاعتراض بعد ذلك على قانون الطوائف الذي أرادت سلطة الانتداب الفرنسي فرضه على المحاكم السورية سنة 1938 م. وتصدّت له الجمعيات الإسلامية مجتمعة حتى تمكنت من إبطاله(17)؛ ولقد أشار الأسطواني في مذكراته(18) إلى أن جمعية الهداية الإسلامية "عملت في مناصرة الفضيلة، ومنع كل ما من شأنه أن يعارض أحكام الدين الحنيف، وسارت في طريقها أشواطاً بعيدة وكثيرة، وكانت الحكومة السورية ورجال الانتداب ينفذون لها كل طلب تتقدم به، وتتجنب عداوتها ومعارضتها(19)" .

   والذي يبدو أن الجمعية قد سعت للانتشار في بقية المدن السورية، وحققت نجاحاً في هذا الاتجاه، وما بلغنا هو أنها أسست في حماة جمعية تابعة لها تحمل نفس الاسم، وتتبنى نفس المنهج والأهداف، وحصلت على الإذن الرسمي بالعمل في سنة 1350 هـ. الموافق لعام 1931 م.(20)؛كما يبدو أن الجمعية حققت بعد سنوات من تأسيسها انتشاراً طيباً في الوسط الإسلامي، تجاوز حدود البلاد السورية، ولا أدلّ على ذلك من قيام الشيخ محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر وقتذاك، بتزويد عبد الرحمن الساعاتي ومحمد أسعد الحكيم، (الذين مثّلا أول بعثة من الإخوان المسلمين أرسلها البنّا إلى الأقطار العربية عام 1935 م.)، بخطاب موجّه إلى رئيس جمعية الهداية بدمشق، يثني فيه على ثقافتهما الإسلامية وتمسكهما بآداب الدين الحنيف، وعملهما على نشر مبدأ الأخوة الإسلامي، في رغبة لعقد الصلة بين الطرفين، تحقيقاً لقصدهما ورغبتهما(21)؛ ولعلّ اعتناء مجلة "الفتح" بنشر بيانات خطابات الجمعية دليل آخر على هذا الانتشار، مثلما أنه أحد أبرز العوامل التي ساعدت عليه من غير شك!
_____________________________________


هوامش

   1. الذي نشرته مجلة "الفتح" ـ العدد 232 ـ العام الخامس ـ 12 شعبان 1349 هـ. ـ ص7
   2. علي الطنطاوي: "ذكريات" ـ ج1 ـ ص263
   3. المصدر السابق ـ ج1 ـ ص265-267 بتصرّف.
   4. المصدر السابق ـ ج1 ـ ص273
   5. مجلة "الفتح" ـ العدد 232 ـ العام الخامس ـ 12 شعبان 1349 هـ. ـ ص7
   6. عبد الغني الأسطواني: "العرب من وراء اللهب" ـ ص426
   7. المصدر السابق ـ ص428
   8. أباظة والحافظ: "تاريخ علماء دمشق" ـ ج2 ـ ص615ـ616
   9. علي الطنطاوي: "المذكرات" ـ ج5 ـ ص109 وذلك ضمن ما أورده عن بيان وقعته الجمعيات الإسلامية وقتذاك، وكان ذلك سنة 1951 م.
  10. انظر: "الفتح" ـ العدد 314 ـ العام السابع ـ 3 جمادى الآخرة 1351 هـ. ـ ص13
  11. انظر: "الفتح" ـ العدد 330 ـ العام السابع ـ بتاريخ 7 شوال 1351 هـ. ـ ص4 تحت عنوان "مدارس دينية في حلب ودمشق".
  12. انظر: "الفتح" ـ العدد 574 ـ العام الثاني عشر ـ غرّة رمضان 1356 هـ. ـ ص17 تحت عنوان "الابتهاج بدخول الفتح إلى سوريا".
  13. علي الطنطاوي: "ذكريات" ـ ج4 ـ ص14
  14. المصدر السابق ـ ج2 ـ ص46-49
  15. مجلة "الفتح" ـ العدد 233 ـ العام الخامس ـ 19 شعبان 1349 هـ. ـ ص10}
  16. انظر: "الفتح" ـ العدد 371 ـ العام الثامن ـ 27 رجب 1352 هـ. ـ ص20، وزهير الشاويش: "الملحوظات على الموسوعة الفلسطينية" ـ ص208
  17. انظر: "الفتح" ـ العدد 642 ـ العام الثالث عشر ـ 4 المحرّم 1358 هـ. ـ ص21
  18. عبد الغني الأسطواني: "العرب من وراء اللهب" ـ ص426-427
  19. في هذا الصدد نقل جميل مردم في أوراقه ـ ص95 عن مذكرات المفوض السامي الفرنسي وقتذاك "غبرييل بيو" أنه أصدر في النهاية القرار بعدم تطبيق قانون الطوائف بحق السنّة من المسلمين، ليعيد العلماء ورجال الدين إلى مساجدهم على حد قوله.
  20. "الفتح" ـ العدد 260 ـ العام السادس ـ 8 ربيع الأول 1350 هـ. ـ ص14
  21. انظر: حسن البنّا: "مذكرات الدعوة والداعية" ـ ص199

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية