ليس حال خطبة الجمعة اليوم بأفضل من حال كثير من الأمور في زمننا، فهي الأخرى لم يقدر لها أن تسلم من الإهمال، أي أنها هي الأخرى قد فقدت ما وجدت من أجله والله أعلم بمكنون تشريعها. فإن كانت خطب الجمعة حقًّا تقام هنا وهناك، في بلاد الإسلام وبلاد الكفر، في المدن والأرياف، في أصقاع الأرض المختلفة، تنقلها الإذاعات والشاشات، إلا أنها -رغم ذلك كله– لقيت ما لقيت من الضعف والهوان. والغزوُ الفكري لم تسلم منه حتى خطبة الجمعة اليتيمة التي لا تقام إلا مرة في الأسبوع ! فهي بحق تقام، وهي بحق تجمع أجساد الناس، وهي بحق يحضرها ويصلي صلاتها من لا يصلي، لكنها لم تجمع بعدُ أرواح الناس، وإن جوهرها ومكنونها وفوائدها وآثارها العظيمة غُيّب منها ما الله وحده عالم به، فهي بذلك كالشجرة التي زرعناها لننال ثمرها فما أثمرت! وهي كالمحارة التي تعب الغواص في جلبها فكانت فارغة خاوية لا لؤلؤة فيها.
وخطبة الجمعة اليوم كما هم أكثر عباد الله محجورٌ عليها، وبقدر ما كانت خطبة الجمعة عظيمة بقدر ما سعوا لتهوينها وتخفيف أثرها، فخطبة الجمعة هذه ـ يا سادة ـ تمر بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى أسماعكم الموقرة ، لئلا يشوب فكركم الدنس، ولئلا يصيبكم الهوس!
فأما المرحلة الأولى ففي دار الخطيب، فاللوائح التي تحوي أكثر من خمسين بندًا يشترط التقيد بها عند كتابة الخطبة ، تبدأ بشرط ألا تطول الخطبة كثيرًا حرصًا على المواطن، حتى لا يشغله شاغل عن أعماله ووظائفه، فالمواطن العربي دائمًا مشغول في خدمة أمته وبناء وطنه، ولئلا نثقل على المسنين والأطفال ، ولنشجعهم دائمًا على حضور الصلوات، ولئلا نؤذي مشاعر الكفار في بلادنا ونحفظ حرية الأقليات.
هذا السبب كتب بالأسود، أما السبب الخفي، فبحبر غير مرئي، يتحسب لما هو أبعد، لعل الإجازة الرسمية تصبح يومي السبت والأحد، وبهذا لابد أن تكون خطبة الجمعة عندها قصيرة أو معدومة، حتى لا نعطل الموظفين والعاملين في كافة ميادين الدولة. وأما البند الأخير فيذكر الخطيب، بأن يكون الدعاء مقتضبًا بنّاء، للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات ، مع ضرورة تجنب الدعاء للإرهابيين والإرهابيات، على أرض العراق وأفغانستان وفلسطين، وما بين البند الأول والخمسين ما هبّ ودبّ وما عُلم وما جُهل.
وفي المرحلة الثانية تتوجه الورقة، بما سُكب عليها من المحبرة إلى وزارة الأوقاف حيث يكون وقوفها، لتصحيح الأخطاء "الإملائية"، لعل الخطيب ـ هداه الله ـ سها عن أحد البنود الخمسين!
وهذا أحسن الظن وأفضل الموجود، الاكتفاء بالتصحيح، لكن أكثر الموجود، كتابة خطبة واحدة وإرسالها إلى كل مساجد البلد، فمهما شرّقت أو غرّبت فلا تأمل بأن تسمع جديدًا أو تتعلم مزيدًا وإن عشت مديدًا!
وإذا ما عادت تلك الورقة إلى يد الخطيب، تساءلت هي المشوّهة، أوقعت في اليد الصحيحة؟! فلا أكثر خطباء اليوم من المأهلين، وقد يكونون من الذين ما دروا يوما بأمور الدنيا والدين، ولا يملكون ذلك الفكر الرصين، ولا الصوت الرخيم، ولعلك لا تجد لقولهم نفعًا، إذ أن حقيقة أرواحهم تحدث الناس بغير صورة أقوالهم، وليس لبعضهم القدرة عل ترتيب جملة واحدة تقول "اتقوا الله يا مسلمين"! فبالله عليكم، كيف يكون بعدها حال المسلمين؟
أما مواضيع الخطبة فليست بحال أفضل، فالزواج، الطلاق، الإرث، الصدق والأمانة و قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة هي الطاغية دومًا على خطبنا ولا تفتأ كرّة هذه المواضيع تنتهي لتعود وتبدأ، في الوقت الذي يتداعى فيه الأقصى ويحاصر أهلنا في غزة ويموت الآلاف في العراق، ويقتل من الجوع أهلنا في شرق الأرض ومغربها، وتزداد نسب عقولنا العربية المسلمة المهاجرة إلى بلاد غربية كافرة، ومن بقي منها كان مصيره موت لأسباب مجهولة، وفي الوقت الذي يعاني فيه شبابنا ونساؤنا من آفات لا عد لها ولا حصر!
وإذا ما خرج المصلون من الجامع ، كان الشارع لهم خير جامع، ونسوا من أين كان كل واحد منهم طالعاً، وهمّوا إلى الحديث عن قصة أحمد البائع، وأسهم أبي محمد في المصارف، وفضيحة أبي خالد في المحاكم، وقضية كل واحد منهم في المنازل، ولا ينسون مسلسلات رمضان القادم والمنصرم، فإذا ما نظرت إلى حالهم، ما ظننت أن الأمة تكون بعدها بخير إن كان واحد من أهم ما فيها ليس بخير، إذ أن خطبة الجمعة كانت يومًا مدرسة إيمانية حقّة بذاتها، وكانت محطة أسبوعية لتجديد الإيمان، فأين نحن من هذا الآن؟!