جمعية التمدّن الإسلامي:
  تعتبر جمعية التمدّن الإسلامي ثاني أبرز الجمعيات الإسلامية ظهوراً في سورية بعد جمعية "الهداية الإسلامية" (1) ، فقد تأسست في دمشق عام 1932 م. بدعوة من أحمد مظهر العظمة، الذي كان قد انتسب إلى معهد الحقوق العربي (كلية الحقوق) ومدرسة الأدب العليا (كلية الآداب) وتخرّج منهما لاحقاً عام 1935 م.؛ وقد تولى رئاسة الجمعية في البداية الشيخ محمد حمدي الأسطواني السفرجلاني أحد أبرز مؤسّـسيها، وهو أحد مؤسسي جمعية "الهداية الإسلامية" أيضاً؛ وتشكل مجلس إدارتها الأول من: عبد الفتاح الإمام، عبد الرحمن الخاني، عبد الحكيم المنير، أحمد حلمي العلاف، عبد الحميد كريم، إضافة إلى أحمد مظهر العظمة الذي حمل مسؤولية أمانة السرّ فيها، وبقي على ذلك حتى وفاة آخر رؤسائها الشيخ محمد حسن الشطي عام 1962 م. ليتمّ انتخابه رئيساً للجمعية من ذلك الوقت؛ وكان ـ كما يروي الشيخ علي الطنطاوي عنه ـ "يحرّر مجلتها، ويكتب فيها، ويقوم على ناديها، ويدعو المحاضرين إليه، ويحاضر هو فيه، وكان يدوّن بنفسه أسماء المشتركين في المجلة ويكتب هو عناوينهم بيده، ويلصق الطابع بذاته، ليوفر على الجمعية أجرة موظف يتولى هذا العمل، وظل على ذلك حتى وفاته عام 1982 م. (2) ".

  اهتمامات ناضجة.. وإنجازات متميّزة

  غلب على "جمعية التمدّن" طابع الإرشاد الديني والثقافي، لكنها لم تبتعد عن المساهمة في الحركة السياسية وقضايا الأمة العامة؛ ومن قراءة "عقيدة جمعية التمدّن الإسلامي" التي اعتادت نشرها على غلاف مجلتها، نستطيع أن نتلمس معالم الفهم الشمولي للإسلام لديها، وعنايتها الحثيثة بتنمية الجانب الإيماني والعبادي والسلوكي لدى جمهورها، بنفس القدر من الاهتمام بجوانب التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية للمجتمع والأمة: "أؤمن بأن الله واحد، والحكم كله لله، وبأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء... وبأن الإسلام قانون يشمل الدنيا والآخرة... وسوف أعمل من أجل نشر العلوم والمعارف النافعة في جميع فئات الأمة.. وأعد بأن أخصص جزءاً من دخلي للأعمال الصالحة وللإنفاق، وبأنني سوف أساند كل المخططات الاقتصادية الإسلامية المفيدة، وسأشجع منتجات دولتي وأبناء ديني ووطني... وأعد قدر استطاعتي بأن أجهد نفسي في تقوية رابطة الأخوّة بين المسلمين، وبأن أنهي التنافر واختلاف الآراء بين طوائفهم..". وكانت الجمعية قد أصدرت العدد الأول من مجلتها "التمدّن الإسلامي" في شهر ربيع الأول عام 1354 هـ. (الموافق لسنة 1935 م.) كمجلة "اجتماعية، أدبية، صحية"؛ وكان أحمد مظهر العظمة رئيس تحريرها، ومديرها المسؤول الطبيب أحمد شفيق نصري (3) ؛ ونظراً  لاهتمام الجمعية بشؤون التعليم في تلك الفترة التي كانت البلاد السورية فيها تحت الاحتلال الفرنسي، فقد نشطت في الإشراف على عدة مدارس أهلية لمحو الأميّة، ثم افتتحت لها في دمشق مدرسة ثانوية عام 44/1945 م. سمّيت "مدرسة التمدّن الإسلامي"، لم تلبث أن اندمجت في العام التالي مع "المعهد العربي" الذي أسسته جماعة "الإخوان المسلمين" بدمشق، وتحول المسمّى إلى "المعهد العربي الإسلامي"، الذي تولى د. مصطفى السباعي رئاسته، ينوبه أحمد مظهر العظمة، واختير عمر بهاء الدين الأميري مديراً للمعهد (4) ؛ وعلاوة على ذلك أسست "جمعية التمدن" تحت إشرافها "الرابطة الأخوية لمساعدة فقراء الطلاب"، كما قامت بتأسيس مستوصف لها عام 1959 م. لا يزال مستمراً في العمل إلى اليوم (5) .كذلك اهتمت الجمعية مبكراً بالمجمع العلمي العربي ودعت إلى إحيائه ورعايته، وكتبت في هذا الصدد إلى كل من رئيس المجلس النيابي السوري، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير المعارف بدمشق خطاباً عام 1938 م. تشتكي فيه من "الاهمال الذي أصابه، وكيد ذوي الكيد فيما مضى من عهود الانتداب"، مطالبة المسؤولين الذين خاطبتهم برعاية المجمّع ومدّ يد المؤازرة له (6) .وعلى صعيد القضايا العامة شاركت الجمعية أيام الانتداب الفرنسي في التصدي لقانون الطوائف مع مثيلاتها من الجمعيات الإسلامية، وأرسلت باسمها كتاب احتجاج مطوّل إلى المفوضية الفرنسية والمراجع الرسمية، تستنكر فيه القرار وتطالب بإلغائه (7) ، كما شاركت مع الجمعيات الإسلامية ونقابة واتحاد المحامين في تشكيل لجنة متابعة لإبطال القانون (8) واستمرت فيها حتى تمّ لهم ذلك. مع قضايا الأمّة وخارج حدود سورية تفاعلت الجمعية مع قضايا الأمة العامة المستجدة، فعندما أقدمت إيطاليا على احتلال بلاد الألبان عام 1939 م. سارعت إلى مخاطبة كل من قنصل إيطاليا في دمشق، وأمين سرّ "عصبة الأمم" بخطابين تستنكر في الأول احتلال "البلد الإسلامي المستقل الوحيد في أوربا"، وترى فيه تعبيراً عن "المطامع الاستعمارية المادية الفاسدة"، وتطالب الهيئة الدولية في الخطاب الثاني القيام بواجبها في سبيل المستضعفين احتراماً للمبادئ التي قامت عليها، وتبدي الأسف لمواقف هذه العصبة غير العادلة (9) . وأولت الجمعية فلسطين اهتماماً خاصاً واعتبرتها "قضية دين وقومية بل قضية إنسانية.." ووصفت السياسة البريطانية تجاه فلسطين بـ"المضطربة والظالمة"، واحتجت على وعد بلفور "الأشأم"، وعلى سياسات تسهيل الهجرة اليهودية وإبطال الصفة الإسلامية عن فلسطين تحت مظلة الانتداب، كما أعلنت مساندتها لمفتي فلسطين أمين الحسيني وطالبت له بحرية العودة إلى بيته وموطن عمله.. (10) ؛ وكان للجمعية دور بارز في مساعدة الفلسطينيين أيام انتفاضة 1936 م.، وأسست في هذا السبيل "لجنة إعانة المنكوبين في القدس" (11) . ولقد كان من أبرز ميزات "جمعية التمدّن" بعدها عن العصبيات وحرصها على التعاون مع جميع العاملين للإسلام، ولذلك انبثق من أعضائها مَن شكلوا فيما بعد جمعية "الشبان المسلمين" بدمشق (12) ، وانتسب إليها العديد من أعضاء ومنتسبي الجماعات الأخرى؛ أما أحمد مظهر العظمة فكان عضواً إدارياً في جماعة الإخوان المسلمين، وعضواً مؤسساً في "رابطة العلماء" (13) علاوة على كونه الناطق باسم "جمعية التمدّن"، وموفدها الدائم لمقابلة الزوار الرسميين إلى دمشق، وعلاوة على ذلك فقد شارك ضمن تعاونه مع العاملين في الجمعيات الأخرى في وضع مناهج التعليم لكل الجمعيات الخيرية في دمشق (14) .ولقد ترشح العظمة لانتخابات المجلس النيابي السوري عام 1947 م. ففاز فيها، ثم ما لبثت اللجنة الموكلة بالنتائج أن أعلنت عن خطأ في فرز الأصوات، مما اعتبره الكثيرون تزويراً صريحاً؛ غير أنه ولّي مناصب حكومية عدة، فعيّن عام 1951 م. مفتشاً عاماً بالدولة، ثم تولى عام 1959 م. رئاسة مكتب تفتيش الدولة، وفي عام 1962 م. عيّن وزيراً للزراعة، ثم أضيفت إليه معها وزارة التموين (15) ، وما لبث أن أعيد إلى رئاسة تفتيش الدولة عام 1963 م. وبقي فيها حتى أحيل على التقاعد سنة 1969 م (16) . تعرضت الجمعية لظروف قاهرة خلال فترة الثمانينات التي شهدت فيها النشاطات الإسلامية في سورية ضغوطاً حكومية قاسية، وتزامن ذلك مع وفاة أحمد مظهر العظمة في شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 1982 م. مما اضطرها إلى التوقف عن إصدار مجلتها، لكنها تمكنت من الحفاظ على وجودها خلال تلك الفترة العاصفة، ولا تزال الجمعية موجودة تمارس بعض النشاطات في دمشق، ويقوم برئاستها في الوقت الحالي الشيخ أحمد معاذ بن محمد الخطيب.

الهوامش:

(1) علي الطنطاوي: "ذكريات" ـ ج 2 ـ ص 236

(2) علي الطنطاوي: (مصدر سابق) ـ ج2 ـ ص253، وأباظة والحافظ: "تاريخ علماء دمشق" ـ ج3 ـ ص434 و442، وأحمد معاذ الخطيب: "رحلة التمدّن الإسلامي" ـ محاضرة بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الجمعية؛ بتصرّف.

(3) أباظة والحافظ: (مصدر سابق) ـ ج3 ـ ص436، ومحمود عليان المشوط: تاريخ الصحافة السورية والعربية ـ ص180، ومجلة "الفتح" ـ العدد 488 ـ العام العاشر ـ 18 ذي الحجة 1354 هـ. ـ ص19

(4) عن حديث مسجل مع زهير الشاويش في شهر آذار/ مارس عام 2003 م.

(5) صحيفة "الجامعة الإسلامية" ـ العدد 202ـ205 ـ السنة 17 ـ 5/11/1364 هـ. (1945 م.)، والحبيب الجنجاني: "الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي" ـ الصحوة الإسلامية في بلاد الشام ـ ص114، وأحمد معاذ الخطيب: "رحلة التمدّن الإسلامي" ـ محاضرة بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الجمعية؛ بتصرّف.

(6) "الفتح" ـ العدد 601 ـ العام الثالث عشر ـ 12 ربيع الأول 1357 هـ. ـ ص33

(7) "الفتح" ـ العدد 637 ـ العام الثالث عشر ـ 28 ذو القعدة 1357 هـ. ـ ص21، والعدد 643 ـ العام الثالث عشر ـ 11 المحرّم 1358 هـ. ـ ص21-22

(8) "الفتح" ـ العدد 642ـ العام الثالث عشر ـ 4 المحرّم 1358 هـ. ـ ص21

(9) "الفتح" ـ العدد 650 ـ العام الثالث عشر ـ غرّة ربيع الأول 1358 هـ. ـ ص16

(10) "الفتح" ـ العدد 660 ـ العام الرابع عشر ـ 11 جمادى الأولى 1358 هـ. ـ ص14 من بيان للجمعية عن "صدى الكتاب الأبيض في العالم الإسلامي".

(11) الحبيب الجنجاني: (مصدر سابق) ـ ص114 و127

(12) مجلة "التمدّن الإسلامي" ـ عدد شعبان 1356 هـ. الموافق لتشرين الأول/ أكتوبر 1937 م.

(13) "الشهاب" ـ العدد 2 ـ سنة 1367 هـ. الموافق 1947 م. ـ ص96

(14) أباظة والحافظ: (مصدر سابق) ـ ج3 ـ ص436-437

(15) أباظة والحافظ: (مصدر سابق) ـ ج3 ـ ص434-436، وعلي الطنطاوي: (مصدر سابق) ـ ج2 ـ ص253

(16) حسان الكاتب: "الوزير الراحل.. العلامة الأديب.. أحمد مظهر العظمة" ـ موقع "منائر" نقلاً عن مجلة "العرفان" 1977 م.، ود. نزار أباظة: (مصدر سابق) ـ ص67
 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية