.. " الشباب السوري ورائحة العطر .. ولعبة الأرجوحة "
.. أهدتني صديقتي فيما مضى عِطراً صغيراً كعربون صداقةٍ بيننا .. ذو رائحةٍ هادئة ومميزة .. وشكلٍ انسيابي جميل .. مما جعلني أحتفظ به لفترةٍ طويلةٍ
خاصةً أنه من تلك الصديقةِ القريبة التي لازمتني في طفولتي وهاهي الآن تلازمني شبابي .. !!
حدثتها بعد غيابٍ عن ذلك العطر .. وكيف مرَّ وقتٌ طويلٌ وأنا أبحثُ عنه إلى أن وجدته .. لأعيدَ بشرائهِ ذكرياتٍ مضت أستنشق رائحتها مع كل رشةٍ من تلك الزجاجة ..!!
.. أحببتُ تلك الأرجوحةَ الخشبية التي كنتُ دائماً ما أُفضِّلُها على كلِّ ألعاب الطفولة .. الأرجوحة التي دائماً ما كانت تطيرُ بي إلى الأعلى الذي أحنُّ إليه .. أسابقُ بها الأطفال .. وفي كل مرةٍ كنت أري صديقاتي كيف باستطاعتي أن أطير بتلك الأرجوحة .. أو لعلها هي من تطيرُ بي إلى مسافةٍ لم يستطع أحد الوصول إليها .. لكنها بالطبع ليست المسافة التي أحلمُ بها .. بل لعلني كنت أمارس بعضاً من شقاوةِ الطفولة .. فأقفُ على اللوح الخشبي .. ممسكةً بالسلاسل الحديدية عن اليمين وعن الشمال .. وبقوةِ دفعٍ من جسدي أرتفعُ إلى الأعلى أكثر فأكثر .. فيتطاير شَعري .. ليعلو صوتُ الضحكاتِ في أعماقي غيَر آبهٍ بأصوات الصراخ من حولي خوفاً علي من السقوط ..!
كنت أقول: ولماذا الخوف ؟!
سأعاودُ النهوض إن سقطت ( ولم أكن أدرك بتفكيري الطفولي الفرق بين سقوطٍ وسقوط ) فأنا أكره البقاء على الأرض بعد أن جربتُ عوالم التحليق كالطيور علها تنقلني إلى الغيوم كتلك الفتاة الكرتونية التي أحبها دائماً وأحفظ أغنيتها عن ظهر قلب ..!!
كبرتْ وتغير كلُّ شيء حولي .. حتى تلك الأرجوحة الخشبية .. لم تعد خشبية .. بل هي الآن تسمى الأرجوحة ذات السلاسل .. دائرةٌ كبيرة في الأعلى يتوسطها عمودٌ كهربائيٌّ ضخم .. يتساقطُ من تلك الدائرة سلاسلٌ في نهاية كل سلسلتين كرسيٌ لشخصٍ واحد .. ُقدرتها على الطيران تفوقُ قدرة الأرجوحة الخشبية القديمة ..!!
مما جعلني أعشق اللعب بها .. ليس لغرض اللعب بقدر ما هو ذلك الإحساس الذي يسكنني منذ الصغر بالتحليق إلى عوالم مرتفعة أستنشق فيها هواءً نظيفاً وأُلامس بيديَّ الغيوم المتفرقة هنا وهناك .. بقدرِ ما هو الشوق إلى عوالم حرة ليس لها حدود أو عليها قيود ..!!
أعاد لي ذكرياتي مع العطر والأرجوحة .. تلك الرائحة العطرية المختلفة التي استنشقتُها يوم أن تنبأ أحد المدونين بأن عام 2008 هو عام المدونات السورية .. ليصدق التنبؤ .. وينطلق بعدها بعدة أشهر ” مجتمع المدونات السورية ” فكانت اللحظات الأولى لولادته في يوم 8 / 8/2008
وكان الوطن الذي لمَّ شمل المدونات السورية المتناثرة في العالم الافتراضي .. خطواتٌ متتابعة وثابتة .. ليعلن المدونون عن ثورة أسموها ” أسبوع التدوين الدمشقي في 9-15 /08/2008. .. أطلقوا من خلاله الكثير من أشواقهم وحنينهم اللامتناهي لعاصمة الثقافة العربية دمشق ..
لم يتوقف إبداع المدونات السورية عند هذا الحد .. رائحة عطر مختلفة يفوح عبيرها كل يوم لينتشر أريجٌ التميز والإبداع مع ” العطر” التي احتلت صفحات المدونات السورية .. ” رواية العطر” ببطلها الذي ُولد من غير رائحة كانت تلك الفكرة المبدعة التي تتحدث عنها الرواية .. غير أن الشباب السوري الذي ولد برائحة .. أي رائحة الإبداع والإصرار والثقة والنجاح الذي يسعى إليه بالرغم من تغييب قضاياه .. ومحاولاتٍ لكبت حريته ووأد تميزه .. برغم ذلك أبت تلك الرائحةُ إلا أن تنتشر في كل مكان محدثةً ضجةً من حولها .. ولأن الشباب السوري قادرٌ على الفعل وكسر كلِّ الحواجز التي تعيقه .. أبى إلا أن ينشئ ” نادي الكتاب ” بشعار ” جميعنا يقرأ ” لتكون إحدى بنوده الاجتماع لقراءة كتاب يتم اختياره بالتصويت عليه كل أسبوعين .. فكانت الرواية الثانية التي تم اختيارها بعد ” العطر” هي ” الأرجوحة ” تأرجح المدونون السوريون ليس مع رواية الماغوط فقط .. بل كانت تلك فرصة لهم للتحليق نحو سماء الإبداع وعوالم التميز التي لا حدود لها .. سألت نفسي : لماذا ” العطر ” ولماذا ” الأرجوحة ” .. ولم أجد إجابة سوى أن ” الشباب السوري ” مع موعدٍ الإبداع والحرية والثورة ..
ولكن هذا الشباب لم يأخذ بعدُ حقه في الإعلام العربي الذي تغافل عن كثير من همومه وقضايا في الوطن وخارجه .. فمتى يُولي هذا الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب هذا الشباب الحر والناجح حيزاً على شاشاته وصفحات جرائده .. ربما هذا الدور الذي يقع على عاتق الشباب في الأيامِ المقبلة لشغل هذا الحيز والتعريفِ بنفسه أكثر .. وملئ الساحة .. وتصدر القافلة .. وحملِ الراية .. وما ذاك بصعب على الشباب السوري المناضل ..