كمن يخاف دوماً ويتوقع أن يفقد أثمن ما يملك وقع علي خبر وفاة الباحثة الدكتور المهندسة نجوى عثمان. خلّفت وفاتها حزناً كبيراً في قلبي.  فإني رغم البعد والغربة كنت أتابع أخبارها وانجازاتها و أقدّر إخلاصها في عملها و دأبها عليه. وفي نفس اليوم الذي بلغني فيه وفاتها، كنت أحدث ضيوفي عن إثنين من كتبها توفرا لي.

 

المرأة عندنا ما تزال تعامل بكثير من الإجحاف و التجني. وأن تعثر اليوم على امرأة مسلمة محجبة تتسنم ذرى المجد العلمي وتقتحم الأبحاث الميدانية فتجول في الأحياء القديمة والمناطق النائية وتسافر بين أقطار العالم تجمع مادتها العملية وتحاضر في الجامعات والندوات المختلفة معرّفة بالحضارة الإسلامية ورافعة لوائها، فهذا شيء عظيم يستحق التقدير و الاهتمام و الثناء.

 


 



ومما زاد من لوعة الفقد أن شابتين جزائرتين مهتمتين بالبحث في التراث العمراني الإسلامي كانت ترافقانها في جولة علمية قد توفاهما الله معها وهما الآنستان: سامية بومايزي وحفيظة عالي، جاءتا للدراسة فقضتا غريبتين في بلاد نائية في نفس الحادث المروري المروع يوم الثلاثاء 10 فبراير، إضافة لتسعة أبرياء آخرين. رحم الله الجميع وعظم أجر أهليهم وعوضهم خيرا.

"الدكتورة المهندسة نجوى عثمان ولدت في منطقة الباب عام ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين درجت في بيت دين وعلم وأدب ، تلقت علومها في مدارس حلب وبعد حصولها على الشهادة الثانوية التحقت بجامعة حلب وحصلت على إجازة في الهندسة المدنية وبعد ثلاث سنوات من عملها المهني في مجال اختصاصها انصرفت إلى دراسة التراث العربي الإسلامي فالتحقت بمعهد التراث العلمي العربي بحلب وبهمة الباحثة الوفية لتاريخ مدينة الشهباء وآثارها حصلت على ماجستير في تاريخ العلوم عند العرب عام 1991 حيث قدمت بحثاً ثرياً يحمل عنواناً تخصصياً وهو "الهندسة الإنشائية في مساجد حلب" ثم حصلت على شهادة الدكتوراه في دراسة علمية بحثية وميدانية أجرتها في مدينة القيروان في المغرب بعنوان "دراسة مقارنة بين المساجد القديمة في حلب وفي مدينة القيروان في المغرب" .‏



 لقد أغنت الدكتورة المهندسة نجوى عثمان المكتبة العربية وأمدتها بعدد كبير من الكتب والأبحاث التي تدل على نضج معرفي وطول باع في العلم والأدب وستظل مؤلفاتها مرجعاً للأجيال .‏

كانت ممتلئة بالحب والعطاء لمدينة حلب فألفت بالاشتراك مع الباحث المرحوم محمد فؤاد عنتابي كتاب "حلب في مئة عام" وقد جاء في ثلاثة أجزاء، كما ألفت كتاباً بعنوان "النقل الداخلي بحلب في القرن العشرين" وثقت فيه مرحلة هامة من حياة الشهباء .‏

وحكت لنا في كتاب أدبي علمي بعنوان "مكابدات لطيفة ومواقف طريفة" ما اختزنته ذاكرتها من قصص وحكايا ومكابدات لطيفة خلال جولاتها الميدانية على مساجد حلب والقيروان .‏

هذا بالإضافة إلى أبحاث ودراسات كثيرة قدمتها في المؤتمرات والندوات التي تعقد في تاريخ العلوم وقد أربى عددها عن خمس وثلاثين بحثاً .‏

اختارت مواضيعها الفكرية والتاريخية من وحي التراث وخصت أغلبها بمساجد مدينة حلب التي تزدهي ببنائها الجميل والأنيق وربما كان لنشأة نجوى عثمان في بيئة دينية ملتزمة أثر في الاهتمام بهذه الأماكن التي هي بوتقة العبادة وفيها تتحقق المثل العليا للحق والخير والجمال الفني .‏

حصدت الراحلة نجوى عثمان عدداً من الجوائز وشهادات التقدير التي قدرت مشاركتها في عدد كبير من المؤتمرات داخل سورية وخارجها كما كرمت في مناسبات عديدة سواء في الباب مسقط رأسها أو في غيرها من المحافل العلمية والأدبية وقد نالت جائزة "باسل الأسد للإبداع الفكري" عام ألفين وأربعة لما تتصف به مؤلفاتها من ألوان مختلفة تجمعها الروح الفكرية والدراسات البحثية التي أغنت التراث وستبقى بقاء السنابل حصاداً للأجيال القادمة .‏

لقد عاشت نجوى عثمان في محراب العمل الدؤوب والإنتاج الغزير ورحلت وهي على قمة هرم العطاء فكان شغلها الشاغل في الأيام الأخيرة إصدار كتابها الأخير "مشيدات حلب وغازي عنتاب" نرجو أن يرى قريباً النور بمساع حميدة من المهتمين والمسؤولين.

وبرحيل الدكتورة المهندسة نجوى عثمان يكون التراث العربي الإسلامي قد فقد باحثة مميزة تعتبر في طليعة من أثرى العمارة الإسلامية بحثاً ودراسة وتنقيباً وتوثيقاً تنكب على أدواتها بصمت وتحصد نتائجها دون كلل أو ملل .‏

لقد تخطف الموت خطاها على عجل ومضت هفهافة روحها كظلها الأهيف الرقيق ولطالما ربطتني بها صداقة يجللها إعجاب شديد بما تتمتع به الراحلة من تواضع جم وأخلاق رفيعة ومبادئ سامية وجهود وأفكار علمية راقية وهذا ما أوضحته في دراسة لها جاءت في الجزء الرابع من كتاب "أدباء من حلب في النصف الثاني من القرن العشرين" .‏

وداعاً ... وداعاً نجوى عثمان وثقي أن اسمك سيبقى محفوراً في ذاكرة كل من عرفك من المفكرين والباحثين والمثقفين .‏إنا لله وإنا إليه راجعون"‏

سليمى محجوب في جريدة الجماهير(1) 

قدمت نجوى عثمان للمكتبة العربية الكتب التالية:

1- الهندسة الإنشائية في مساجد حلب في القرن العشرين

2- مساجد القيروان

3- النقل الداخلي بمدينة حلب

4- مكابدات لطيفة ومواقف طريفة في أحياء حلب والقيروان

5- حلب في مائة عام من 1850-1950 بالاشتراك مع الأستاذ محمد فؤاد عنتابي.

6- تاريخ الفن والعمارة.

الهندسة الإنشائية في مساجد حلب:

"والباحثة نجوى عثمان كانت خير من وثّقَ للعمارة الإسلامية متمثلةً بمساجد مدينة حلب، وذلك من خلال دراسة معمارية هندسية لفنّ العمارة الإسلامية، وكان ذلكَ ماثلاً في كتابها (الهندسة الإنشائية في مساجد حلب) والذي يقع في 680 صفحة مزوّداً بالمخططات الهندسية التي بلغت 164 مخططاً، بالإضافة إلى الصور الميدانية لمساجد حلب التي أربت على مئة صورة، هذا بالإضافة إلى الجداول الإحصائية التي بلغت 35 جدولاً، أما بالنسبة إلى المساجد التي وقع اختيارها عليها فقد بلغ 461 مسجداً بين قديموحديث. وهذا ما يجعل الكتاب يتّصف بالمنهجية والعلمية والتوثيقية، وهو الذي أهّلها لنيل درجة الماجستير في العمارة الإسلامية".‏

(نقلاَ عن مقال لللأستاذ فواز حجو بجريدة الجماهير).(2)

وقد بدأت بحثها ببيان أهمية الصلاة في حياة المسلم ودور المسجد في المجتمع الإسلامي. ثم شرحت المفردات العمرانية للمساجد وبينت الحاجة إليها وأول ظهور لها ثم تطورها.

وبعد أن أخذت نحو مئة صفحة في الدراسة المعمارية والإنشائية للأقواس، تحدثت عن مساجد حلب في العصور الإسلامية  المختلفة. واختارت مسجداً من كل عصر من عصور الإسلام وشرحته بتفصيل كبير. ابتداءاً باسمه ومروراً بواجهاته ومسقطه الأفقي وأقواسه ومآذنه ومقصوراته وأروقته ومنبره وسدته وسقفه. ثم عادت للتحليل الإنشائي لمساجد حلب. واختتمت بحثها بترجمة لبعض مصممي المساجد الحديثة بحلب.

وأجمل ما وقعت عليه عيني في كتابها هذا الفقرة  من مقدمته حيث تبرر بقاء أبنية المساجد في حلب منذ بداية الفتح إلى اليوم فتقول:

"تمثل المساجد جميع العصور الإسلامية التي مرت على حلب، لاحتفاظها بخصائصها ومميزاتها المعمارية والإنشائية، وبقائها صالحة للاستعمال والقيام بالمهمة التي أنشئت من أجلها. وسر بقائها وبذل الأهلين الأموال لصيانتها وتجديدها لا يعود كما أرى، إلى كونها أبنية عامة فحسب، بل لأنها تمس وجدان وروح كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي، يتردد إليها خمس مرات باليوم يلتمس فيها راحة النفس والروح ويحقق التواصل مع الله الواحد الأحد... وكل ما يتصل بالله يبقى خالداً".

حلب في مئة عام 1850 - 1950:

"ألفته بالمشاركة مع الباحث المرحوم محمد فؤاد عينتابي  وصدر عام 1993م ، وهو مؤلَّفٌ من ثلاثة أجزاء واستغرق تأليفه وجمعه وتصنيفه خمس سنوات بحثاً وتصويراً وتدقيقاً.وعلينا أن ندرك صعوبة هذه المهمّة ونحن أمام كتاب يعتمد على التوثيق. ومادّة الكتاب تعكس بجلاء مدى الجهد ومدى القدرة على التحمّل والبحث. والكتاب يتناول مرحلةً هامّةً، لم تكن فيها أعمال "الأرشفة" موجودةً أو لم تأخذ حقّها من الدراية والاهتمام، ولذلك أرى أنّ المؤلّفين جريا وراء المكتبات والدوائر والسجّلات. وسألا هنا واستفسرا هناك. فالحركة لا تغيب عن الكتاب... وهي حركة الزمن وقد بعثاه أمامنا، وأيقظاه من سباته العميق في مرحلة زمنيةٍ فيها الكثير من الجمود والكثير ممّا يقال في آخر العهد العثماني حتى عهد الانتداب الفرنسي والاستقلال. وهي مرحلةٌ رافقتها متغيّراتٌ دوليّةٌ في أوروبا والعالم، انعكست على سورية عامة، وحلب خاصة. فالكتاب وثّق الكثير من الأحداث وأعطى صورةً عن الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ.

والكتاب يبسط ظلاله، خفيفاً رشيقاً ممتعاً، وفيه توثيقٌ وإشارةٌ للمصدر سواءٌ أكان كتاباً أو صحيفة؛ وهذا المبدأ أو المنهج سار عليه الكتاب من أوله إلى نهايته، سنةً بعد سنة، وهو يذكر في كل سنة أهمّ ما حدث فيها بالاعتماد على الصحافة أو الكتب. وتبقى الإشارة ضروريّة لأهمية الكتاب الذي يشكّل منبعاً أساسياً ومنهلاً غنياً للمتابعين، وهو رافدٌ هامٌّ وحيويٌّ يرصد حياة مدينةٍ لا تعرف الهدوء والراحة، ويعبّر عن حبٍّ خالص لهذه المدينة التي ارتبط اسمها بالتاريخ ارتباط العاشق بمعشوقته."

(نقلاً عن محمود محمد أسد في مقال مطول رائع له بعنوان: "حلب في مئة عام 1850- 1950") (3)

وسأورد  للقارئ الكريم عناوين عام 1850 على سبيل المثال:

- كتاب "بعثة لمسح حوض نهري دجلة والفرات – إنشاء ترعة للملاحة النهرية بين البحر المتوسط وخليج العجم" لفرانسي راندو تشيسني.

-  قومة البلد: وهي أحداث مؤسفة هاجم فيها أهل الأحياء الفقيرة أهل الأحياء الغنية لضعف الحكم المحلي فيها. فأرسل السلطان عبد المجيد عدداً كافياً من الجنود برئاسة محمد أمين  قبرصلي باشا فأطفأت الفتنة وردت المظالم وعوضت الحكومة على المتضررين.

- تعيين القائد البولوني الجنرال جوزيف بِم (مراد باشا) حالكماً عسكرياً.

- كتاب "أهم حوادث حلب" وهو مفكرة مخطوطة للمطران بولس أرتين أسقف حلب الماروني المتوفي سنة 1850.

- الطبيب إلياس ناقوس: طبيب ماهر عالج الشيخ حسين الغزي فمدحه الشيخ بعشرة أبيات طرز اسمه في أول كل بيت منها. وقد أورد الكتاب  نص القصيدة.

- كتاب "داعي الرشاد لسبيل الاتحاد وانقياد" لمحمد أبو الهدى أفندي نقيب الأشراف بحلب.

- ترجمان القنصلية الفرنسية.

ومن أكثر أخبار الكتاب طرافة وصف ظهور البندورة (الطماطم) في حلب عام 1854 وتوجس أهل المدينة منها واعتبار الأحمر منها فاسداً:

"في هذه السنة ظهر في حلب بقل باسم (باذنجان إفرنجي) أو باسم (بنادوره)، أحضر بزره من مصر أحد التجار، وزرع في حلب، فأنجب وأخصب، غير أن الحلبيين لم يألفوا أكله في أول ظهوره، بل كان بعضهم ينفر منه، حتى أن بعض البسطاء كان إذا رآه أو ذكر في حضوره ينطق بالشهادتين توهماً منه أنه من الخضر المحرمة التي اخترعها الفرنج، وكان النادر من الناس إذا رضي بأكله يقتصر على الأخضر مطبوخاً ويتحامى من الناضج الأحمر منه زاعماً أن هذا (وخم) مضر، يسبب الأمراض، ومع الأيام ألف الناس أكله، وصاروا يتحامون الأخضر منه، ولا يستعملونه إلا مخللاً، وأقبلوا على استخدام الأحمر الناضج إقبالا زائداً، حتى صاروا يعملون من عصيره دبساً يدّخرون للشتاء لتطييب أطعمتهم التي لا تلذ في أذواقهم إلا بعد أن يضاف أليها شيء منه".

مشاريع كانت الفقيدة تعمل بها قبل وفاتها:

"المشروع الأول: هو ترجمة سالنامة حلب لسبعة أعوام متتالية وهي الكتاب السنوي الذي كان يصدر في ولاية حلب في العهد العثماني ، ولقد سافرت الفقيدة من أجله مرات عدة إلى استانبول باحثة عن المترجمين القادرين على هذا العمل الفريد وهم قلة .‏‏

والمشروع الثاني: هو كتاب عن أوابد حلب وعينتاب وكلس كانت تسافر من أجله وتلتقط الصور وتضع الشروح وهو كتاب أنجز ، ولطالما هاتفتها مؤخراً فكلمتني على عجل معتذرة بأنها في المطبعة تراجع (البروفات) .‏‏

والمشروع الثالث: هو متحف حلب في الفترة العثمانية وكانت الفقيدة عضوا نشيطاً في لجنته العلمية.‏‏

أما المشروع الأخير: فهو كتاب توثيقي عن نقائس وكتابات الفترة العثمانية، عملت فيه مطولاً مع ثلة من طلابها الجادين المخلصين ، كانت رحمها الله تشكو من تعثر ظهوره بسبب من العراقيل البيروقراطية."

نقلاً عن مقال منشور بجريدة الجماهير  للاستاذ  تميم قاسمو. (4)

خاتمة:

"وأخيراً يمكن أن نقول إنّ رحيل هذه الباحثة خسارة علمية كبيرة لهذه المدينة، ولكي لا نقول إنّها خسارة لا تعوّض، فنرجو الله أن يعوّض هذه المدينة بباحثة على قدر المسؤولية تحمل الأمانة العلمية بيدٍ دؤوبةٍ كيدِ فقيدتنا التي يمكن أن أقول فيها إنها أعظم امرأة شاهدتها في حياتي".(فواز حجو – جريدة الجماهير).

______________________________________________

(1) http://jamahir.alwehda.gov.sy/_View_news2.asp?FileName=97031117220090215211639

(2) http://jamahir.alwehda.gov.sy/_View_news2.asp?FileName=75612555920090214213934

(3) http://www.dahsha.com/viewarticle.php?id=28628

(4) http://jamahir.alwehda.gov.sy/__archives.asp?FileName=11868094120090210220328

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية