Imageلم تحملني إقامتي في إسبانيا منذ ما يقرب من 30 عاماً على الكتابة عن «الأندلس»، وهو ما كان ينتظره مني كثيرون جدا، ويصلني صداه بشكل يومي في تساؤلات السادة القراء عبر البريد الإلكتروني، خاصة أن كثيرين من دعاة وكتاب وصحافيين ودبلوماسيين معروفين يترددون على إسبانيا، ويخرجون على الناس بالكتب والنشرات والمقالات الطويلة المُدبجة المضمخة بدموع الألم والحنين إلى «الفردوس المفقود» وأيامه وأمجاده، وقد قام البعض منهم بإعداد أفلام مسجلة ومسلسلات وكتب مصورة عنها.

ورغم إقامتي أول عهدي بهذه البلاد في مدينة غرناطة نفسها مدة خمسة أعوام، فإنني لم أرغب أو لم أستطع الكتابة عن «الأندلس»! ولعل الفرق الكبير جدا بيني وبين هؤلاء القوم، أنني أقيم في إسبانيا بينما هم زائرون! وحتى الذين أقاموا منهم في إسبانيا لعدة أعوام فقد كانوا من أفراد السلك الدبلوماسي، أو الثقافي رفيع المستوى أو الملحق بالسفارات أو من الباحثين الأكاديميين، ومعظم هؤلاء لا يكادون يختلطون بـ «البشر»، لا من عامة الشعب الإسباني، ولا من المهاجرين من المسلمين الآتين من شتى أصقاع الأرض، وخاصة أبناء المنطقة العربية بمن فيهم القوميون والإسلاميون والضائعون بين هؤلاء وهؤلاء! والفرق بين المقيم من أمثالي، والمقيم من هؤلاء القوم، والزائر، هو الفرق بين من يعيش في صفحات كتاب، وبين من يتصفحها، وبين من يشتري كتاباً ولم يفتحه قط!

تحضرني هنا قصة صينية قديمة كنت قد قرأتها قبل أكثر من 40 عاماً، تتحدث عن (فلاحة فقيرة معدمة تعمل مع أهلها في نسج سجاد من نوع سحري خاص يُهدى لقصر الإمبراطور، وكانت تحلم بدخول ذلك القصر ورؤية الأمير المقدس الجميل، ولكنه كان من المستحيل على «البشر» تجاوز تلك الأسوار، فاهتدت إلى حيلة تدخل بها ذلك القصر الأسطوري، فنسجت صورتها على ذلك البساط، فلما حُمل إلى «الأرض الممنوعة»، وبسطته الحاشية أمام الإمبراطور، تحول كل ما كان قد رُسم فيه إلى أحياء، من شجر وورد وغزلان وطيور، ووجدت الفتاة نفسها داخل ذلك البلاط)، تلك المدينة الممنوعة لم تكن غير مدينة من صنع أيدي أولئك الفلاحين الذين ينسجون في الخارج هذه النمارق التي ما تفتأ عندما تُمدّ في الداخل أن تكون قطعة من الحقيقة والواقع والحياة!


حياتي في الأندلس كانت حياة حقيقية، حياة هجرة إنسانية، حياة أسرة تبحث عن شيء من الكرامة وشيء من الحرية، حياة أم تهدهد أطفالها وتأخذهم إلى المدرسة يومياً، وتشتري معهم الخبز واللحم الذي تسأل يومياً الجزار عنه إن كان مذبوحاً أم غير مذبوح! وتمضي بهم إلى الحديقة كل مساء ليلعبوا مع أقرانهم وجيرانهم، فتسمع قصص هؤلاء الجيران، أهل الأندلس، وأهل مدريد، سكان إسبانيا الحاليين، الذين تصافحهم وتعيش معهم، وتعرف أنهم من لحم ودم وحقيقة، وأنهم لا يعرفون شيئاً عن ذلك الأندلس الذي صنعه وعاشه أجدادهم ما بين جزار وضحية، وتعرف عنهم ما لا يعرفه الدبلوماسي وراء ستائر سيارته، ولا الأكاديمي بين أقسام مكتبات الجامعات الإسبانية الضخمة.
لم تكن إقامتي في إسبانيا زيارة صحافية لمؤتمر عابر للقارات، أو ضمن وفد رفيع المستوى ينزل فندقاً خماسي النجمات، ويركب باصات فخمة في زيارات مرتبة إلى ما تبقى من الأندلس من آثار تجني من ورائها الدولة أموالاً طائلة وهي تروج للحج إليها في بلادنا المنبتّة عن الواقع والحقيقة، خمسة أيام سياحية يتقلب فيها المرء في سعادة وهناء بين جنات العريف في الحمراء، وأقواس مسجد قرطبة، وبعض السفارات والوزارات والمراكز الإسلامية، ثم يمضي من حيث أتى، وقد أضاف إلى شحنة الحنين «شيئاً» رآه بأم عينه، فردوس حقيقي، فردوس يلمسه بيديه، ويشمه بأنفه، فردوس يزدهي بالألوان والأصوات وعبق التاريخ الذي يحمله هو في تلافيف دماغه! جاء به من قراءاته ومطالعاته، وذلك المخزون الهائل الذي يحمله الشعر والأدب العربي عن محنة الأندلس التي انقضت منذ 500 عام، وقد وصلتنا أخبارها عن طريق الرواة والأشعار، مخزونٌ يكاد يفوق بمرات في زخمه وإجماع الكلّ عليه، ما تحمله اللغة العربية المعاصرة عن محنة فلسطين التي نعيشها اليوم -وفي بث حي ومباشر- من شحنات فكرية وعاطفية ونفسية لا يتفق عليها الجميع بحال من الأحوال!

هل كانت قدرة القوم قبل 500 عام على تصوير الحقائق المفزعة التي عاشوها أقوى من كل قدرات قناة «الجزيرة» وأخواتها اليوم على تحريك ما في النفوس؟! أم أن تلك المحنة كانت من الهول بمكان تجاوزت فيه كل ما عرفته البشرية من محن، حيث كانت فريدة من نوعها في التاريخ حيث استطاع المستعمر الإسباني مرتين متتاليتين استئصال الحضارة والدين واللغة والعنصر الإنساني، في كل من «الأندلس» و «أميركا اللاتينية» وبنفس الأساليب الوحشية المبالغة في التنكيل بالإنسان، ليس عن طريق القصف بالطائرات والأباتشيات.. ولكن بطريقة دموية مباشرة، تجعل من التمثيل بالضحايا، والتفنن في تعذيبهم، طقساً دينياً تعبدياً، منح محاكم التفتيش مكانة مرموقة في تاريخ الوحشية البشرية، التي تنحدر بالإنسان في مثل هذه الأحداث ليصبح أحط من الوحوش الكاسرة، في عالم لا تحكمه شريعة الغاب المنضبطة، ولكن شريعة الناس الذين أمر القرآن بالاستعاذة من شرهم إذ انفلتَ من عقال العقل والمنطق والإنسانية.


لم تقف محنة الأندلس تلك عند حدود أهلها المصابرين ومعاصريهم ومن تبعهم من جيل أو جيلين، ولكنها استمرت معنا حتى أيامنا هذه، فأنت تقرأ رواية المصرية الدكتورة رضوى عاشور، والدة الشاعر الفلسطيني الشاب تميم البرغوثي، «ثلاثية غرناطة»، تلك الرواية أمرضتني، وشكلت فاصلة حقيقية في طريقة رؤيتي لوجودي في إسبانيا، رواية لا تتحدث بشكل استثنائي عن آلام أهل الأندلس ومحن تعذيبهم واستئصالهم البطيء الدؤوب على مدى مائتي عام تقريباً، ولكنها تتحدث عن حياتهم الإنسانية اليومية في ظل ذلك الواقع الكئيب، عن غسيلهم المنشور، رائحة خبزهم وفطائرهم في الأفران، ملابسهم، طعامهم، قصص عشقهم، عيونهم، فرش نومهم، المكحلة والدهن والمشط، السراديب التي حفروها بأظافرهم ليخفوا فيها مصاحفهم وكتبهم وأشياءهم، انتزاع الروح شيئاً فشيئاً من أرواحهم، ثباتهم الذي كان ينطفئ يوماً فيوماً أمام ذلك الغول الذي كان يتمدد على أشلاء وجودهم الواهن الحزين.


تلك الرواية لم تقص علينا حكايات الخوف والهول التي اعتدنا قراءتها عن محاكم تفتيش إسبانيا، أو سجون تعذيب عبدالناصر، أو أقبية القهر البعثي الجهنمية بشقيها السوري والعراقي، ولكنها رواية حكت لنا عن الإنسان، ذلك الإنسان الذي كان يمشي في نفس الطرق التي مشيتُ فيها خمسة أعوام في غرناطة صعودا وهبوطا، مررتُ من تحت نفس الأقواس التي كان يمر تحتها أولئك القوم الذين أحياهم الله في رواية رضوى عاشور من جديد، تلك الساحة المسماة بساحة الرملة في غرناطة، والتي كنت أخرج بأطفالي للنزهة فيها كل عشية، فأشهد واجهات محالها التجارية، وأتناول فيها المثلجات، كانت نفس الساحة التي أحرقت فيها النساء اللواتي حملن أسماء فاطمة ومالكة، واتُهمن بمزاولة السحر لتمسكهن ببعض ما كانت عليه جداتهن من علم أو معرفة سكبنها في جيوب الحفيدات شعيرات ذهبية رقيقة من بقايا أشعة نور خنقت وذبحت في ظلمات الجهل والحقد.


تلك الرواية –على ما فيها من ملاحظات فكرية وأدبية– طرحت أسئلة كثيرة، ورسمت نصف الدائرة... ووجدت أنا بعد قراءتها في نفسي كثيرا من الأجوبة، وأنا أعيش في إسبانيا، بل لقد وجدت في وجودي هذا النصف الآخر الذي يتمم تلك الدائرة.
شكرا للدكتور محمد سعيد الملاح من دبي، الذي أرسل إلي تلك الرواية، يعرفني بوالدة تميم البرغوثي، الذي عرفه من خلال مقال لي، تحدثت فيه عن ولادة شاعر جديد يحمل الأمل لهذه الأمة، فكانت رضوى عاشور... السبب الذي دفعني للكتابة عن الأندلس بعد 30 عاماً من الصمت فيما يخص الأندلس.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية