لم يجالس هاني الطايع أحد أبداً إلا وشدّه فيه هذا القدر الهائل من المعرفة المتنوعة المؤصّلة.. والنمط النادر للذاكرة الواعية الحاضرة.. تختزن مشاهد وأحداث وخبرات أكثر من نصف قرن من الزمان.. وتستحضر من ثناياها أدق التفاصيل ساعة الطلب.. فكأنها وهي تنساب من بين شفتيه مشهد مصوّر حيّ.. مفعم بالحيوية والنضارة والعنفوان!
التقيت الراحل "أبا الربيع" صيف عام 2001 م. في جدّة، وأنا أعدّ مادة بحث مطوّل عن تاريخ الجمعيات الإسلامية السورية التي كان ـ رحمه الله ـ أحد روّادها المخضرمين، وكانت الحصيلة تسجيلاً وافراً من المعلومات والملاحظات والذكريات؛ والتقيته مرة أخرى في بيته بالدوحة عام 2005 م. وسجلت معه المزيد، وكانت فرصة نادرة لي طوّف بي خلالها على أجنحة مكتبته النادرة التي تضمّ آلاف العناوين، وأطلعني على أكداس الوثائق والقصاصات والصور التي تنتظر اليوم يداً خبيرة تتولى حفظها وتنظيمها، وتتيح للباحثين والمهتمين فرصة الإفادة الحقيقية منها؛ وبين اللقائين وبعدهما، وحتى قبيل وفاته صبيحة الثلاثاء الموافق للثالث عشر من شهر يناير 2009 م.، تواصلت بيننا الاتصالات والمراسلات، مما أثرى بحثي وأغنى حصيلتي بما لا يقدّر من المعلومات.
ملامح من طفولة متميزة
ولد هاني الطايع ـ كما أعلمني ـ في حيّ "الصباغين" بمدينة اللاذقيّة عام 1939 م. ودرس فيها مراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، قبل أن ينتقل إلى دمشق مطلع الستينات لدراسة اللغة العربية في كلية الآداب، ويتخرج منها عام 66ـ1967 م.؛ وخلال إقامته في العاصمة عمل الطايع محرراً، ثم رئيساً لتحرير صحيفة "اللواء" اليومية التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين، ومحرّراً في مجلة الجماعة الشهرية "حضارة الإسلام"، وفي نفس الوقت جرى تعيينه موظفاً في المكتب الصحفي لوزير التموين عمر عودة الخطيب، واستمر في ذلك الموقع على عهد ستة أو سبعة وزراء بعده، إلى أن كان خروجه من البلاد إلى الدوحة عام 1968 م.
في صفوف "الإخوان"
تعود ذكريات هاني الطايع مع العمل الإسلامي إلى سنوات حياته المبكرة، حينما زار د. مصطفى السباعي اللاذقيّة في السنة التي تلت حرب 1948 م. متحدثاً في قضيتين: آثار الحرب وإنهاض الشعب السوري بشأن تلك القضية، وقضية دين الدولة في الدستور الذي كان السباعي يشارك في لجنة صياغته في "الجمعية التأسيسية" التي تحولت بعدها إلى "مجلس النواب"؛ ويذكر الطايع الذي كان ابن عشرة سنين وقتها كيف كان لمجيئ السباعي وقع ودويّ، وكيف احتشد الناس عند مركز "الإخوان" الذي يقع في بناية "آل زريق" خلف بيت جدّه، يستمعون لخطبته التي استثار فيها حميتهم وغضبتهم للدين وللدستور، والتي تحدّى فيها محمد الشواف نائب المدينة من حزب الشعب بعدما عارض أن يكون دين الدولة الإسلام، وخاطبه بكل جرأة قائلاً: أنا أمثّل اللاذقيّة أكثر منك، لأنها بلد إسلامي وشعبها مسلم!ويضيف الطايع بأن مركز الإخوان الذي انتقل لاحقاً إلى موقع آخر لا يبعد غير بضع مئات من الأمتار في الشارع نفسه، تصادف أن يكون أمام دكان أبيه هذه المرة، مما أتاح له مزيداً من الوقت ليشهد نشاطات الجماعة وهو فتى صغير، ولينضمّ إلى صفوفها وهو في المرحلة الإعدادية، ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره.
تديّن الفطرة
لم تكن الحالة الدينية لمسلمي اللاذقيّة في ذلك العهد تتجاوز "التديّن التقليدي" كما انطبع في ذاكرة "أبي الربيع"، فالناس متديّنون بفطرتهم، وفيهم طبيعة النقاء والصفاء والتسليم الإيماني التلقائي، لكنه هذا التديّن خالطه الكثير من الجهل والعمومية في الفهم والتصور؛ وبحكم وقوع المدينة على الساحل، ولأن السواحل ـ كما يقول ـ تجمع القادم من البحر والقادم من البرّ مع المقيمين، فإن التديّن في أهلها يتّسم بالانفتاح.كذلك لم تعرف اللاذقيّة في تلك الفترة وجود علماء ودعاة كبار منها، أو حلقات ودروس دينية كما هي الحال في دمشق وحلب مثلاً؛ ويتذكر الطايع بهذا الصدد أحاديث من تقدموه في السن عن قيام جمعية خيرية إسلامية لم تتجاوز حدود العمل الخيري، ولم تكن تعرف بأي نوع من النشاط العام؛ ثم لم تلبث أن تأسست جمعية "مكارم الأخلاق" التي انضمّت بمن بقي من رجالها إلى دعوة الإخوان المسلمين، منوّهاً إلى أن الدعوة ظلت تفتقد الزعامة الجامعة في البلد حتى أواسط الخمسينيات، عندما نزل المدينة الأستاذ محمد المجذوب قادماً من طرطوس وانخرط في نشاط الإخوان، فكان هو علم الدعوة إلى سنين؛ ويلفت الطايع النظر إلى أن المجذوب هو أحد أبرز من سبق أن جمعهم ودعاهم الأستاذ محمد المبارك الذي كان مفتشاً للّغة العربية، وكان يطوف على البلدان والمحافظات في الفترة الأولى لتأسيس الجماعة، ويلتقي من يراهم من النابهين؛ وعلاوة على المجذوب فقد برز من هذا الجيل الرائد عبد الرحمن الصوفي، والدكتور نبيل الطويل، وأناس آخرون انسربت بهم الطرق إلى دعوات أخرى، خاصة بعد المحن التي نزلت بالجماعة، وقرارات الحلّ التي استهدفتها.
عهد السرّية الأول!
ولقد كان انتساب الطايع لـ"الإخوان المسلمين" في ذلك العهد، عهد أديب الشيشكلي الذي حظر نشاط الجماعة وأغلق مقارّها، واضطر مراقبها العام السباعي للمغادرة إلى لبنان، إلا أنه وهو في هذا السن المبكر، ورغم انتمائه الحديث للجماعة، فقد كان يسمع عن حضور السباعي للبلاد في زيارات سرّية يلتقي فيها بعض الإخوان؛ وينقل الطايع عن بعض من يتقدمونه في السن من هؤلاء أن السباعي دعا قيادة الجماعة في تلك الفترة إلى أن يتحركوا بشكل بارز ومؤثّر للمشاركة في إسقاط الشيشكلي وقال لهم : "لقد صار لنا من التجربة السياسية ما يؤهلنا لنعرف متى تسقط الثمرة، فسجّلوا مواقف تنتفعوا بها في المرحلة المقبلة"، ودعاهم للتصويت على هذا الاقتراح، لكن الغالبية عارضت، وسقط الاقتراح، وبعد شهر أو اثنين سقط الشيشكلي بالفعل وتحققت توقعات السباعي!وكانت الجماعة التي غاب مراقبها العام أكثر الفترة السابقة قد استغرقها خلال ذلك الانشقاق الذي أحدثه في صفوفها نجيب جويفل، وهو الذي أثبتت الأيام أنه كان على علاقة مخابراتية مع الحكم في مصر، وباتت مشغولة بمعالجة ذيوله، فقرّرت عدم دخول الانتخابات التي تلت سقوط الشيشكلي، وهو قرار يصفه هاني الطايع بأنه كان "قصير النظر.. وأنّ كثيراً من معاناة الجماعة والوطن حتى الآن من أثر تلك الساعة"! وعندما ترشّح محمد المبارك مستقلاً بعد أن انسحب تنظيمياً من الجماعة لم ينجح في الدورة الأولى لانتخابات عام 1954 م. فكان أن قرّر "الإخوان" النزول بثقلهم لمساعدته، وتمكّن بذلك من تحقيق الفوز في المرحلة الثانية.
الانشقاق.. والمنشقون!
كانت قيادة الصف الأول للجماعة في مدينة اللاذقية تضمّ خلال تلك الفترة ـ كما يقول "أبو الربيع" ـ مجموعة من العناصر الشبابية المبرّزة والواعدة منهم: رشدي المفتي، لؤي بستنجي، سعيد شاكر، محمد البيطار، وعبد البديع محجازي؛ ويضيف الطايع بأن الأخيرين انضمّا بعدها إلى جناح المنشقين مع جويفل، وكانت لهما خلايا سرية يتوليان تدريبها، ونجحا في إنشاء تشكيلات ضمن الجماعة لا أعرف تفاصيلها، لكن البيطار عاد إلى الصف والتزم، وأما الآخر وعندما تمّت الوحدة وجاء الرئيس عبد الناصر يزور سورية للمرة الأولى وحضر إلى مدينتنا، فوجئت عندما مرّت بنا سيارته الخاصة بأن عبد البديع محجازي يقف وراءه مباشرة ضمن حرسه الخاص، مما أكد لنا أن هؤلاء المنشقين كانوا مرتبطين بالنظام الناصري من حيث يدري بعضهم أو لا يدري!ولقد أدى حدوث الانشقاق ـ كما يكمل الطايع ـ إلى أن تتولى حلب الإشراف على مركز اللاذقية، فكانت فرصة له للتعرّف على أوجه جديدة من شخصياتها، لعل الأستاذ عادل كنعان الذي بات صديق عمره وأحد أقرب المقربين إليه أبرز هؤلاء؛ وفي تلك الفترة كان الطايع يواظب مع مجموعة "متنوّرة" على قراءة نخبة الكتب الإسلامية المتوفرة، للمودودي، ومالك بن نبي، وأمثالهما، ومناقشتها وتمثّل ما فيها؛ ويذكر "أبو الربيع" أن من أبرز الذين ضمّتهم تلك الحلقة ممدوح فخري جولحة الذي كان رغم تقدمه في العمر بعدة سنوات، إلا أن حضوره للمدينة من مناطق التركمان الفقيرة متأخراً جعلهما يترافقان خلال مراحل الدراسة الثلاث، علاوة على ما قام بينهما من إخوّة في الجماعة؛ وبعد أن مضى جولحة إلى مصر فاختص وأخذ شهادة الدكتوراة من أزهرها، عاد إلى اللاذقيّة خطيباً وداعية، لتكون نهايته المعروفة عندما أرداه "القتلة" بالبلطة خلال أحداث الثمانينات، فقسموا رأسه، وصلموا أذنيه، وجدعوا أنفه، وسملوا عينيه، ورموه على قارعة الطريق! ويبيّن الطايع أن ما جمع بينه وبين الدكتور الشهيد بالإضافة إلى الدعوة حبّ الأدب، ومحبّة أدب الرافعي بالذات؛ ولقد كان من المدهش أن يتلو محدثي عليّ من نصوص أدب الرافعي مقاطع بأكملها لا يزال يحفظها عن ظهر قلب! قناعـة وثقـة غير أن الطايع لم ينغلق ضمن دائرة الثقافة الإسلامية وحسب، ولم تقتصر علاقاته وصداقاته على المتديّنين وحدهم، فهو يفخر بمعرفته ولقاءاته المبكرة مع أهل الأحزاب والاتجاهات الأخرى، وحواراته الثرية معهم، وكان مدهشاً بحق أن امتلك القدرة والجرأة ـ وهو ابن الثامنة عشرة أو أقل من ذلك ـ على محاورة الدكتور وهيب الغانم، الذي يعتبره أحد مؤسسي فكرة "البعث" وروادها الأوائل، ويقرّر أنه إذا كان زكي الأرسوزي هو الرائد الأول في نشر الفكر القومي بين صفوف الطائفة العلوية، فإن الغانم هو رائدهم التنظيمي الأول بكل جدارة! وفي هذا اللقاء "الفكري" الذي تمّ من غير تخطيط من الطرفين، جلس الطايع يناقش الغانم ويحاوره وقتاً ممتداً، واستطاع بحجته وثباته أن يزعزع قناعات من أتى مع الغانم، مما دعا الأخير إلى أن يطلب منه الحضور إلى اللاذقيّة لإكمال النقاش، أملاً منه أن ينجح في احتوائه وضمّه إليه!كذلك تعرف الطايع لاحقاً على إلياس مرقص المفكر الماركسي المعروف وكانت بينهما جلسات نقاش على مستوى عال في عهد الوحدة الذي منعت فيه النشاطات السياسية المعلنة، كما كانت له صداقات ولقاءات بالعديد من القيادات الماركسية والبعثية وغيرهم، مما يعتبره الطايع "من أسباب أصالتنا ونحن نطوّف بالعقائد المختلفة ونختار الإسلام عن ثقة وتمكّن وقناعة"؛ منوّهاً في الوقت نفسه إلى أن النفوذ الشعبي والطلابي في اللاذقيّة ظلّ باستمرار للإخوان وللإسلاميين حتى تسلّم "البعث" السلطة بواسطة الجيش، مدللاً بنجاح الدكتور نبيل الطويل نائباً عن المدينة في الانتخابات التي تلت الانفصال، في بلد ربعه من النصارى، إضافة إلى من فيه من أبناء الطوائف الأخرى!
صدامات دامية!
وللبعث في تلك المرحلة موقع هام في تاريخ المدينة، ارتبط في ذاكرة الطايع بالصدامات الحزبية التي كانت تحدث بين طلاب الإخوان وبينهم، في حقبة كانت المعادلة السياسية السورية كلها في مخاض! ويذكر هاني الطايع كيف أن "البعث" دعا إلى مظاهرة في إحدى المناسبات القومية أواسط الخمسينيات رفض الإخوان المشاركة فيها، فجاء البعثيون وأحاطوا بالمدرسة الإعدادية التي كان الطايع طالباً فيها يريدون فرض إرادتهم وإثبات نفوذهم، وقام أحد المعلمين المتعاونين معهم بفتح أحد الأبواب الجانبية فدخلوا منه في حشد كبير، ووقع اصطدام عنيف بينهم وبين الطلبة داخل حرم المدرسة أوقع إصابات عديدة بين الطرفين؛ ويذكر الطايع بهذا الصدد أن محمد البيطار القيادي في الجماعة هرع من بيته عندما سمع بما حدث يريد أن يتصدى للاعتداء، فانفرد به البعثيون في الطريق وضربوه بالسكاكين في ظهره حتى أوشك على الموت، وظلّ متأثراً بهذه الضربات الموجعة حتى آخر عمره، ونتيجة لذلك قامت مظاهرة حاشدة في المدينة اتجهت إلى الحيّ الذي فيه مركز "البعث" وأردوا حرقه، الأمر الذي دفع جمال الصوفي قائد موقع المدينة ـ والذي تولى إحدى الوزارات في عهد الوحدة لاحقاً ـ إلى التدخل لحماية الحزب، وطلب من قيادات الإخوان تهدئة الموضوع.ويوضح الطايع أن مثل هذه الصدامات التي كانت كثيراً ما تقوم بين القوى السياسية من إخوان وشيوعيين وبعثيين وقوميين سوريين هي التي أدت إلى طعن حافظ الأسد في مرحلة سابقة، والتي ظلت تتكرر في مراحل عدّة، بسبب التنافس الحزبي الذي يعتبره من طبيعة فترة الحريات، منوّهاً إلى أن هناك مناسبات عامة جامعة كان الجميع يلتقون فيها ويعملون من غير مماحكات، كالعدوان الثلاثي على مصر، وعندما هددت تركيا وقوى الأطلسي بغزو سورية على سبيل المثال.