ولا يمكن منعه من الحياة حتى لو تأخر في الخروج إليها كثيراً! وكما يقول أحد الأدباء الإسبان: «لا بد لكل أديب أن يكون صحافياً وباحثاً، ولكن ليس كل صحافي وباحث أديباً بالضرورة»، وأحياناً تتداخل المراحل في حياة الكاتب، فيكتب صحافة أدبية، أو أدباً صحافياً بحثياً.
وصلتني هذه الرواية فحركت في النفس أشياء وأفكاراً طالما اعتلجت فيها ثلاثين عاماً، وكانت رضوى عاشور قد طرحت من خلال هذه الرواية الكثير من إشارات الاستفهام التي لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات هذه الرواية التي قيل إنها ترجمت إلى الإسبانية، وقُدِمت في مقاطعة «أندلوثيا» (الأندلس) جنوب إسبانيا، في حفل أكاديمي هام، الشيء الذي لم أعلم به إلا من تصريحات الروائية المنشورة في المواقع العربية.
اللافت للنظر أمران، الأول عدم اهتمام الجالية المسلمة والعربية بمعرفة أو بنشر مثل هذه الرواية في الأرض التي سجلت الرواية بعضاً من تاريخها! اللهم إلا ما قد كان من اهتمام على نطاق ضيق جداً، يقتصر على بعض المنتديات الثقافية والأكاديمية وفي مقاطعة «أندلوثيا» الجنوبية فقط! فإسبانيا تتكون من 17 مقاطعة تتمتع كل منها بحكم ذاتي، وإعلام مستقل وخصائص تاريخية وثقافية وحتى عرقية تختلف من إحداها إلى الأخرى، وهو أمر يمكن أن نعود للحديث فيه مستقبلاً، والثاني أن هذه الرواية وما يشبهها من إصدارات كان من المفترض أن يُعلن عنها في أجهزة الإعلام الإسبانية الوطنية -وليس المحلية- لشدة أهميتها وكونها -من وجهة نظري المتواضعة- مفصلية في الكتابة عن الوجود الإسلامي التاريخي في الأندلس، ولكن هذا الأمر ما كان ليحدث، بل إنه من المستحيلات في زمن لا يكاد مواطنو إسبانيا يعلمون فيه شيئاً عن هذا «الأندلس»، لا تاريخاً، ولا حضارة، ولا وجوداً، اللهم إلا ما اتصل بهاتيك الآثار «الجنوبية»، التي تعتبر بقية من بصمات «استعمار» مرّ من هنا وانقضى، الشيء عينه الذي يعتقده بعض بني جلدتنا!
إننا نعيش زمناً تسيطر فيه على وسائل الإعلام الإسبانية –والغربية- قوى لا يهمها بحال من الأحوال أن يمتد أي جسر للتفاهم، ولا حتى تبادل المشاعر السطحية الإنسانية مع المسلمين والعرب، ولعل الفرق بين هاتين الكلمتين ساكنٌ وفقط في أدمغة سكان «المنطقة العربية»، حيث لا يوجد أي فرق بينهما لدى أهل الأرض جميعاً، خاصة الأوروبيين منهم! فكلنا من وجهة نظر الإسبان «موروس»، وهي جمع كلمة «مورو»، والتي عَرَّفْتُها في كتابي «حكايات»: (المورو: هو المسلم العربي الدخيل الغريب المحتقر)! والمعاني الخمسة في أذهان القوم مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً لدى التلفظ بهذه الكلمة.
وكان هذا التعريف قد أثار حفيظة أحد ألمع أساتذة الأدب والنقد الأدبي من مصر الأخ والصديق أشرف دعدور الذي كان في حينها يعمل لنيل درجة الدكتوراة في مدريد، واعتبر أن هذا التعريف هوانٌ ومذلة، واعتراف بالدونية أمام «الإسباني»، بيد أنني عندما وضعت هذا التعريف لكلمة «مورو»، أجريت بحثاً مضنياً عن معاني الكلمة، وكان أقرب القواميس إلى ضبط المعنى، «القاموس الجديد إسباني-عربي» الصادر في مدريد 1988 عن المعهد الإسباني-العربي للثقافة، حيث جاء في ص811: (المورو: *مسلم ويطلق على مسلمي المغرب والأندلس خاصة وعلى سائرهم عامة *إسلامي *غير ممزوج بالماء *غير مُعَمَّد *إنسان مسالم *و «لا يوجد موروس على الشاطئ»، عبارة يُلمح بها إلى حضور من لا يرغب في حضوره أو في اطلاعه على سرّ * «أتى الموروس» كناية عن حالة سكر).. انتهى التعريف حسب القاموس المشار إليه.
ومن اللافت للنظر مع كل هذه المعاني البالغة السوء، أن عبارة «غير ممزوج بالماء» كانت قد حُشرت عمداً بهذه الطريقة، بينما تعني وبكل وضوح «غير النظيف»، وكذلك عبارة «إنسان مسالم»!! ولا بد أن الأستاذ الذي أشرف على هذا العمل الضخم، كان قد تلطف في نقل المعنيين خاصة الثاني منهما، والذي أزعم أن المراد منه كما هو مفهوم في الثقافة الإسبانية: الإنسان السلبي، الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شره!
لقد بنيت في ذهني جدلية خاصة بمعنى كلمة «مورو» تعتمد بصورة أساسية على الأدبيات الإعلامية والإنسانية والثقافية في إسبانية ما بين عامي 1980 و2004، إذ أصبح لهذا المعنى الآن تصورات وملابسات جديدة، خاصة أن اصطلاح «الإرهاب» صار مرادفاً في أذهان العامة في أوروبا وليس في إسبانيا وحدها لكلمة «الإسلام»!! ولقد وجدت أن الناس في كل بلد أوروبي يستعملون لفظاً مشابهاً لكلمة «مورو»، فعلى سبيل المثال يستعمل الألمان كلمة «تركي» والتي تحمل في أنفسهم نفس المعاني والدلالات، مع أن تركيا لم يكن لها أي وجود ثقافي تاريخي إنساني حضاري في ألمانيا.
لم أختر تلك المعاني لترجمة كلمة «مورو» جزافاً، ولا هواناً، ولست باحثة بالمعنى العلمي للكلمة، ولكنها حصيلة حياة، ومعاناة، وتعايش قسري مؤلم، جعلني أفهم وبالضبط المعنى الذي يريده الناس كلما تلفظوا بهذه الكلمة.
هناك فرق كبير بين أن تهون وبين أن تُهان، هناك فرق بين أن تنقل الواقع كما هو، وبين أن ترى الواقع كما تريد أنت أن تراه، أو كما يحب الآخرون أن يروه، لن نستفيد شيئا إن نحن نفينا مشاعر الغربيين تجاه المسلمين المقيمين بين أظهرهم، بل إن نفْيَنا لهذه المشاعر يتسبب في تشويه الحقيقة، وفي خداع المواطن في المنطقة العربية، الذي ينام ويستيقظ وفي أعماقه حلم واحد، أن يستقل الطائرة، أو الباخرة، أو البعير، أو خشبة في عرض المحيط، أو قشة تطفو في مياه المضيق، ليصل حياً أو ميتاً إلى شاطئ الأمن والأمان والديمقراطية وحقوق الإنسان! وإنه لكذلك.. شاطئ الأمن والأمان، ولكن ليس للمسلم ولا للعربي، وإنه برّ الديمقراطية والحرية والكرامة، ولكن ليس لكل من هبّ ودبّ، ولربما يدخل في نطاق ذلك من «أكل الحب»، ولكن يخرج منه كل مهاجر، يعتبره القوم دخيلاً يريد أن ينتزع منهم فضول أقواتهم، وفرص العمل المتاحة لديهم، والهواء الذي يستنشقون، والإسفلت النظيف الذي يدوسون، وذلك رغم تأدية حقوق الناس كاملة بنصوص القانون، وعدم امتهان إنسانيتهم كما نرى ونسمع في كثير من بلادنا التي تنتمي إلى حضارة الإسلام اسماً، ولا تطبق منه إلا ما اتصل بالشكل والمظهر.
ولمَ لا يحرص الأوروبيون على بلادهم ومكاسبهم؟! وقد سهروا وكدّوا وتعبوا ونصبوا وبذلوا كل جهودهم، وفي كثير من أنحاء أوروبا، بذلوا دماءهم وأرواحهم وأعراضهم في سبيل الوصول إلى ما وصلوا إليه اليوم، من استقرار اجتماعي ورفاه إنساني وتقدم علمي وتكنولوجي، بينما كنا وما زال معظمنا يغط في سبات عميق، ويعيش منبتاً ومنفصلا عن الواقع والعصر، وما يتطلبه هذا الواقع وهذا العصر.
رواية «ثلاثية غرناطة» دفعتني لتسجيل خواطر.. بعض خواطري عن حياتنا في إسبانيا، الشيء الذي لم أتعرض له كثيراً، لأن حياتنا في إسبانيا جرح، ووجودنا فيها مؤلم -كما هو الحال في كل الدول الأوروبية- ولعل أشد ما في هذا الجرح المؤلم، ليس الالتفات نحو ماض غابر ولى ولم يتبق منه إلا أطلال سياحية، ولكنه هذا الاضطرار القسري يوماً فيوماً للمقارنة بين هذه البلاد التي وجدنا أنفسنا ذات يوم «أسرى» فيها، على ما فيها من حرية ورياض ونسائم، وبين تلك «السجون الضخمة» التي خلفناها، وهي أبداً ماثلة في الأرواح حقائق إنسانية مفجعة، عن حضارة لم يعرف أبناؤها كيف يحرسونها ويحمونها من أن تصبح أوهاماً!! في أروقة غرناطة وقرطبة حيناً، وفي ساحات بغداد ودمشق والقيروان والقاهرة وفاس كل حين.