هناك حقائق واقعية وتاريخية يزيفها الإعلام العربي أو يخطئ في طريقة عرضها، ينبغي أن يعرفها الرأي العام لما لها من أهمية بالغة في صياغة طريقة تفكير الشباب الذين قد يظنون أن التغيير عن طريق التفجير يمكن أن يكون وسيلة مجدية، الشيء الذي يكذبه الواقع والتاريخ ومجريات الأمور!
لقد كان من أهم وأكبر الأخطاء الفاحشة التي ارتكبها إعلامنا –وبعضه عامدا متعمدا- أن اعتبر سقوط الحكومة الإسبانية وسحب قواتها العسكرية من العراق نتيجة مباشرة لتفجيرات مدريد! وذلك رغم التوضيحات التي قدمناها مرارا وتكرارا حول هذا الموضوع وفي جميع أجهزة الإعلام التي تحدثت معنا في هذه القضية، وهذا موضوع في غاية الخطورة. فمن جهة، كان «البعض» ممن يعمل من بعض العواصم الغربية بوقاً إعلامياً «جعجعياً» –من الجعجعة- في إعلامنا العربي، كان هؤلاء القوم يؤيدون بطريقة غير مباشرة مثل هذه الأعمال الإجرامية، يدغدغون بآرائهم الرأي العام العربي، ويخطبون منه التصفيق والتأليه! ولكن عندما حدثت تفجيرات لندن حيث يقيمون، انخفض صوت هؤلاء وصاروا حمَاماتٍ تغرد للسلام وترفض الإرهاب! بينما المسألة تتعلق ومباشرة بالخط الواضح الأبلج بين الحق والباطل، بين الإرهاب والمقاومة، بين ما يؤيدك العالم كله وأنت تقوم به، وبين ما يرفضه الجميع ودون أن يعيد أحد التفكير فيه مرتين.
لقد جعل هذا «الإعلام العربي» الرأي العام في المنطقة العربية يعتقد أنه من الممكن تغيير الحكومات وإسقاط الأنظمة في أوروبا بوضع قنبلة هنا وحزمة مواد متفجرة هناك، وإحداث هذه المقاتل العظيمة في ديار العدو! وهذا لم يحصل بالطبع، ولن يحصل! لم يحصل في دول هشة من حيث التركيبة الاجتماعية والإنسانية حيث تنعدم البنى الاجتماعية التحتية والقاعدة الاقتصادية المتينة، كما هو الحال في سوريا على سبيل المثال أو الجزائر، اللتين اكتوتا بهذا النوع من العمليات المسلحة التي لم تستطع أن تُجدي فتيلا، فكيف هو الحال مع دول ديمقراطية تحترم سيادتها وشعبها وتتمتع بقوة اجتماعية واقتصادية هائلة تستمدها من بنى تحتية غاية في الصلابة والتماسك؟!
لم يحصل في بريطانيا، ولم يحصل في الولايات المتحدة، ولم يحصل في إسبانيا بسبب إرهاب «إيتا» ولا بسبب تفجيرات مدريد! ولا في إيرلندا رغم الوحشية والدأب الطويل في هجمات الجيش الجمهوري الإيرلندي! لم يحصل في أي مكان من العالم الحديث أن تمّ أي تغيير في السلطة عن طريق هذه الحركات المسلحة التي أسرفت في قتل الأبرياء إلى درجة انقلب فيها السحر على الساحر في عالم الإعلام الذي يسيطر على العقول والنفوس والعالم، وانقلبت كل المعادلات، وتحول شعب كالإسباني من نصرة القضية الفلسطينية إلى اعتبار المقاومة الفلسطينية إرهابا ينضوي تحت لواء ما يسمى «القاعدة»! ولم تُؤتَ القضية الفلسطينية بمثل ما أصيبت به بسبب هذه الأعمال غير المسؤولة وغير الأخلاقية وغير المُجدية، وشتان شتان ما بين الإرهاب والجهاد والمقاومة!
لم يكن تغيير الحكومة الإسبانية نتيجة لتلك التفجيرات المغرقة في الغباء، ولكن نتيجة كذب الحكومة على شعبها. لقد ظن الحزب الحاكم وحكومته أن الكشف عن هوية المفجرين الإسلامية سوف يتسبب في فضح سياساته «الأميركية» الخرقاء، فادّعى أن منظمة «إيتا» الإرهابية الباسكية هي التي تقف وراء العملية، ولو أنه قال الصدق لفاز في الانتخابات بنسبة غير مسبوقة في تاريخ إسبانيا، نظرا لاستيقاظ الحسّ الوطني الجماعي بسبب ما اعتبره الإسبان «هجوماً خارجياً على المصالح القومية»، ولكنه أخطأ الحساب، واكتشف الجمهور الأمر فسقط في الانتخابات نتيجة تزوير الحقيقة، ولم يكن لتفجيرات 11 مارس يد حقيقية ولا مباشرة في إسقاط الحكومة، وها هي قوى اليمين في إسبانيا تستعد الآن للعودة إلى الحكم أقوى مما كانت عليه، معتمدة بصورة رئيسة في حملاتها الانتخابية على موضوع تلك التفجيرات باعتبارها مؤامرة خارجية ضد الأمة الإسبانية (بهدف استرجاع «الأندلس»!).
من بين عشرات الرسائل التي تفضل القراء الكرام بإرسالها إلي أو نشرها في مواقع شتى تعليقاً على موضوع «تفجيرات مدريد»، والذي قطعت به سلسلة حديثي عن الأندلس بسبب الذكرى الخامسة لأحداث 11 مارس في مدريد، من بين هذه الرسائل التي فيها من كل بستان أو حقل ألغام باقة أو حزمة! كان هناك من يدعم ويتفهم، وكان هناك من يُكَفِّر ويُخَوِّن –كالعادة- إلا أن الرسالة التي استوقفتني حقا كانت لأحد قرائي الكرام في صحيفة «العرب» تساءل فيها عن البديل الذي يمكن أن نقوم به لدفع أذى الآخرين، هذا الأذى الذي تبقى معه كلمة «أذى» نفسها قاصرة جدا عن بلوغ المعنى الحقيقي لما يجري على الساحة العالمية سياسيا وعسكريا وثقافيا فيما يتعلق بالمنطقة العربية.
علينا أن نفهم ملابسات السياسة الخارجية الأوروبية، ومن ذلك أن أوروبا ليست واحدة في مضمار السياسة والفكر، وكذلك كل دولة أوروبية لا تشكل وحدة متماسكة في قضايا السياسة لا الداخلية ولا الخارجية، ولعل هذه النقطة بالذات هي التي تشكل القوة الحقيقية التي تنطوي عليها هذه السياسات، لأنها سياسات شورى، تتعدد فيها النظرات والنظريات، ولأن الحكم غير محتكر –حتى الساعة- في هذه الأقطار، ولكن يتم تداوله بين الجهات السياسية المختلفة بطريقة تصب في المصلحة الوطنية.
لم تشترك الحكومة الإسبانية في جريمة حرب العراق بقرار شعبي عام يستند إلى استفتاء علمي كما هو معتاد في أوروبا، ولكن بقرار شخصي لرئيس الحزب المحافظ الذي كان وما زال يستمد وجوده ودعمه وسياساته من القوى المحافظة الحاكمة أو المسيطرة على السلطة في واشنطن ونيويورك، وكانت الأغلبية المطلقة للشعب الإسباني ترفض رفضا قاطعا تورط البلد في مثل تلك «المغامرة» التي ظن «المحافظون الجدد» في الولايات المتحدة، وأذيالهم في أوروبا، أن بإمكانهم القيام بها بسهولة ويسر في المنطقة العربية التي هي، شئنا أم أبينا، قلب الأمة الإسلامية السياسي والجغرافي والإنساني، وكانت كل الأحزاب السياسية في إسبانيا بما فيها قطاعات كبيرة من حزب الشعب نفسه قد نادت بسحب القوات الإسبانية من العراق والتي لا يتجاوز تعداد رجالها المائة، وكان سحب هذه القوات الإسبانية العسكرية من العراق وعداً انتخابياً قطعه على نفسه زعيم الحزب الاشتراكي في العشية ذاتها التي قرر فيها رئيس الحكومة آنذاك إرسالها إلى هناك! هذه القوات كانت ستنسحب فور فوز الحزب الاشتراكي بالانتخابات سواء قام أولئك القوم بتفجيراتهم أم لم يقوموا! لقد خسرنا المعركة مع الشعب، ولم نكسب إلا قطاعات جديدة من الأعداء في بلد كان شعبها يعتبر من أشد المناصرين للحقوق والقضايا العربية.
لم تستطع التفجيرات والأعمال المسلحة والاعتداءات على الآمنين الأبرياء، ولا حتى الهجمات الإرهابية في طول عالم اليوم وعرضه أن تنتزع حقا، أو تغير باطلا، أو تهز عرشاً قام على الجماجم والدماء، لم تستطع كل الحركات المسلحة التي نشأت في بلادنا أن تغير نظاما سياسياً واحداً في طول المنطقة العربية وعرضها، والحديث هنا يقتصر على الأنظمة الحاكمة، ولا يشمل الأنظمة الاستيطانية المحتلة، فلمثل هذا معالجات أخرى وحديث آخر.
لا يجدينا نفعاً أن ننكر مسؤولية أفراد من أبناء الجالية المسلمة في إسبانيا عن تفجيرات مدريد، هذا الإنكار الذي أصبح الدرع النفسية التي يحتمي بها معظم أبناء الجالية ومنظماتهم، وتدعمه بصورة أو أخرى جهات إعلامية عربية خارجية. يجب أن نعرف وأن نعترف أن هذه التفجيرات كانت عملية خسيسة بكل ما في هذه الكلمة من معان، والعقل المفكر لها كان ضيفاً «مهاجراً» طالباً في واحدة من أهم الجامعات الإسبانية وكان يتقاضى من الحكومة الإسبانية منحة دراسية لاستئناف بحوثه لنيل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد!
ذهب ضحية تلك التفجيرات 200 إنسان من الأبرياء، و2000 جريح متضرر بصورة لا علاج لها، و «انتحر» بعدها بأيام وبطريقة جبانة مجانية أفراد المجموعة التي نفذتها، ولم يقدموا أي شيء للإسلام والمسلمين سوى أن ألصقوا بهم لون الدم و «أساؤوا» وجوههم وجعلوا حياتهم في إسبانيا جحيما حقيقيا من سوء الظن المتبادل وتوجس الأسوأ دائما! ودمروا في هذا البلد جهودا مضنية كان قد بذلها كثيرون خلال نصف قرن لبناء جدلية معينة من العلاقة بين الإسلام والمسلمين وبين هذه الدولة المضيفة! وانقلب الرأي العام الإسباني ليصبح وفي أغلبية واضحة داعماً لبناء السدود والجدران الفكرية والنفسية، وصار بإمكان النافخين في أبواق الحروب محاربة الإسلام بكل الأسلحة المتاحة أكاديميا وفكريا وإعلاميا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا، وعلى نطاق واسع وواضح، وبشكل غير مسبوق.
أما «البديل».. فمسألة تحتاج إلى تفصيل بعد التوضيح.