حين يذكر مصطلح العروبة يتبادر الى الذهن تلك الرابطة القومية التي تجمع أبناء الأمة العربية ، أو أنها بكلمات أشمل ذلك الاطار السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي الذي يضم شعوبا تتكلم لغة واحدة هي اللغة العربية . وعلاوة على هذا الاطار الرباعي فثمة اطاران آخران هما الاطار الزمني وهو التاريخ ، والاطار الجغرافي وهو تلك المساحة من الكرة الارضية التي اصطلح على تسميتها بالوطن العربي أو العالم العربي الممتد على قارتين هما آسيا وافريقيا. ومصطلح العروبة انطلاقا من هذا المفهوم جديد بدأ تداوله بصورة أو باخرى في أوائل القرن العشرين المنصرم وجاء في بداياته ردا على تحديات فعاليات التتريك التي قامت بها حكومة الارتحاد والترقي التركية التي لم تعترف آنذاك الا بقومية واحدة ولغة واحدة هي التركية الطورانية .
وهذا يفسر محدودية انتشار مصطلح العروبة واقتصاره على ولايات بلاد الشام والعراق والحجاز ، وهي التي ظلت تحكمها الدولة العثمانية حتى أواخر ايامها ، في حين أن مصر وبلاد المغرب كانت لا تستخدم هذا المصطلح ومثالا لا حصرا كانت مصر تطلق تسمية "الشرقيين " على الوافدين اليها من آسيا العربية . وغني عن القول أن هناك من أقطار العالم العربي من تتغنى بانتماءات تاريخية وحضارية قديمة لا تمت الى العروبة والاسلام بأية صلة ، ولهذا دلالتها .
ومما لا شك فيه أن الثورة المصرية بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قد أيقظت العواطف القومية لدى الناطقين بالعربية ، وحرضت على الحدود السياسية التي زرعها الاستعمار الاوروبي ، كما نادت بالوحدة العربية من المحيط الى الخليج .
وكان الرأي السائد آنذاك أن جامعة الدول العربية ما هي الا مؤسسة شكلية وهي أشبه ما تكون بناد للدول الناطقة بالعربية زرعتها بريطانيا الاستعمارية كي تكون أعلى سقف للأماني القومية لشعوب العالم العربي . ولعل أخطر ما في بنود ميثاق هذه الجامعة تلك البنود التي تشدد على استقلالية الاعضاء وعدم التدخل في شؤونها والحفاظ على حدودها السياسية .
ما يعنينا هنا أن هذه العروبة رغم أنها ظلت في الاطار النظري العاطفي ورغم ضيق مساحة تحركها في الاتجاهات التي يفترض أن تتحرك اليها ، الا أنها ظلت تتآكل الى الحد الذي أصبح التقوقع السيادي القطري لكل نظام عربي ظاهرة تحمل في ثناياها حساسية مفرطة تجاه استقلالية هذا النظام واستماتته في الدفاع عن قراره الفردي ومصالحه الخاصة في اطار حدوده السياسية .
وينبغي الاعتراف أن ما يسمى "العمل العربي" قد شهد منذ العام 1973- وهو عام حرب رمضان ومن الاعوام النادرة التي شهدت تآلفا عربيا وشكلا ما من اشكال التضامن حتى العام الحالي 2003 - ثلاثة عقود من السنين العجاف حملت في احشائها تراجعا متسارعا أشبه ما يكون بكرة الجليد المتدحرجة بدءا بحرب الخليج الثانية وما أحدثته من شرخ خطير في مرآة العروبة ومرورا بتساقط الثوابت الخاصة والخروقات في جدار القضية الفلسطينية التي كانت "قضية العرب الاولى" ووقوفا عند العدوان الاميركي على العراق بكل افرازاته الراهنة والمستقبلية المحتملة .
واذا كان لنا أن نقف وقفة تأمل واستقراء لما جرى على ساحة العالم العربي ، فمنذ البداية يجب الاقرار بأن العروبة بمفهومها القومي الشامل لم تكن هي المحرك الرئيس لعمل الانظمة العربية السياسية ، وهذا ينطبق على ما يسمى بالشارع الجماهيري العربي الذي يفترض أن يكون البوتقة التي تنصهر فيها شرائح المثقفين والمبدعين والنقابيين والمعارضة العربية بكل ألوان طيفها السياسي .
ولكي لا يكون هناك اجحاف بحق البعض أو اتهام له بخروجه على العروبة قلبا وقالبا ، فمما لا شك فيه أن الانظمة العربية كان لكل منها تصوره ورؤيته "لعروبة " ذات مقاييس ومواصفات خاصة به لا تنطبق على نظيراتها ومثيلاتها في دول الانظمة الاخرى . وبمعنى آخر فهي أشبه بعروبة الخطوط المتوازية التي لا تلتقي عند أية نقطة أو لا تتقاطع عندها ، وهذا يفسر الى حد كبير أن هذه الانظمة ومنذ ان "استقلت " حتى اليوم لم تتفق على مشروع قومي أيا كان شكله أو حجمه أو وزنه .
فليس هناك صحيفة أو اذاعة أو فضائية قومية واحدة. وليس هناك مجرد كتاب واحد موحد في المناهج التربوية . وليس هناك أي شكل من أشكال الوحدة الاقتصادية . وأما مشروعات الوحدة السياسية فقد آلت للفشل جميعها ولم يعد أي من هذه المشروعات مطروحا على الاجندة العربية . وأما معاهدات الدفاع المشترك فقد سقطت في الاختبار الأول لها على خلفية ما يجري في الاراضي الفلسطينية . وفي الاختبار الثاني وعلى الارجح أنه النهائي في الحرب العدوانية على العراق .
وفي ضوء هذه الحقائق السائدة فمنذ ثلاثين عاما – وهي الفترة الزمنية التي تبلور فيها التوجه القطري السيادي المنغلق على نفسه – فان غالبية العمل الرسمي الذي يمكن أن يسمى "عربيا" قد انحصر في القضية الفلسطينية في مسارين شكليين تظاهريين الأول يخص منظومة القمم العربية التي كانت قراراتها دون الحد الأدنى والغارقة في العمومية والتي لم يكن لأكثرها رصيد على أرض الواقع .
وأما المسار الثاني فهو خيار التوجه المستمر الى الامم المتحدة وتحديدا مجلس الأمن الدولي حيث أن الجميع مدركون تمام الادراك أن هناك "غولا" اسمه الفيتو الاميركي افترس كل القرارات وأبقى القلة القليلة مشلولة الحركة تقادم عليها الزمن ، وكلا المسارين لم يكونا أكثر من مجرد ذر الرماد في العيون .
لقد كان العدوان الاميركي على العراق بالنسبة "للعمل العربي" بكل اتجاهاته وأبعاده بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير . وعلى ضوء هذا العدوان المستمر فان ساحة أي قطر عضو في جامعة الدول العربية يمكن أن تكون مسرحا لكافة أشكال التحديات والاحتمالات والسيناريوهات المحاكة ضدها ، ويمكن الرهان على كافة مشاعر الاعضاء الآخرين بصورة أو باخرى باستثناء المشاعر القومية التي خمدت نارها جراء هبوب رياح العولمة والغزو الثقافي والمصالح الفردية الخاصة والتقوقع القطري وانعدام الرؤية الوحدوية .
وحقيقة الامر ان الانظمة العربية الحالية ليست مؤهلة " للعمل العربي" القومي كونها نشأت أساسا في اطار حدودها السياسية المنغلقة على ذاتها ، وهي والحال هذه دول اجسادها تنتمي الى العصر ، وأما ارواحها فتنتمي الى العشيرة التي تدين بالولاء لعقر دارها وشيخها ليس الا. وثمة سبب آخر كون دول هذه الانظمة غير متجانسة تربويا وثقافيا واقتصاديا ، وثمة اختلافات في التركيبة الديموغرافية للسكان من حيث العدد والتعددية المذهبية والعرقية والطائفية ، الى جانب التباين في درجة الاحساس القومي.
كلمة أخيرة ان مفهوم العروبة لم ينضج بعد ولم ينتقل من مرحلة وحدة اللغة الى وحدة الهدف والصف والمصير ، ومن الخاص الى العام ومن الأنا الى نحن ، ومن الجزء الى الكل وهي الأهم والأخطر . والانظمة العربية سادرة عن قصد في الابتعاد عن هذه المركبات الاساسية التي يفترض أن تزود العروبة بالطاقة التي تفتقر اليها جراء النزيف المستمر الناجم عن السياسات العربية الفردية .