تطالعنا هذه الأيام أخبار منبثة في الانترنيت تعكس بصورة فاضحة الوضع المزري الذي وصلت إليه المجتمعات في المنطقة العربية ، أخبار قميئة عن جرائم قتل شنيعة للنساء ، وعن جرائم تشيب لهولها الولدان ارتكبتها نساء وأبناء ضد الزوج والأب ، علاقات محرمة بين المحارم ، وجرائم شرف وعنف ، وأخبار عن آلاف الفتيات اللاتي اضطرتهن الأحوال والأيام إلى إجراء عمليات ترقيع للشرف ! وأخريات كان من نصيبهن الذبح أو الفضيحة أو الانتهاء إلى بيوت الدعارة ، وأطباء جعلوا بضاعتهم الاتجار بالأعراض والأسرار ، وأشياء لاتثير القلق والقرف فحسب ، بقدر ماتؤكد الأوضاع بالغة السوء التي تفتك بالمنطقة حيث يرتبط السياسي بالاجتماعي ارتباطاً وثيقا في مهمة تدمير الإنسان وسلبه حريته وكرامته.
الاستبداد السياسي طويل المدى الذي تَكَرَس في الأمة بسطوة القهر والبطش ، سلب الناس القدرة على التفكير السليم ، وأصبح الخوف هو المحرك الرئيس في مجمل العلاقات الأسرية والاجتماعية ، وسيطرة الفرد "المؤله" على العباد والبلاد تركت فرصة للأفراد أن يؤلهوا أنفسهم في نطاق المجتمع وخليته الأولى الأسرة ، ليستبدوا بمن هم أضعف منهم ، سلسلة متصلة من الاستبداد والقهر والعنف ، وعجلة دائرة من استعباد الإنسان وبشتى الوسائل ، تارة تحت اسم طاعة أمير المؤمنين وولي أمرهم -عظم الله أجرهم فيه- ، وتارة باسم برّ الوالدين ، وتارة باسم تعظيم الكبار وتوقيرهم ، ومن علمني حرفا كنت له عبدا !!، وكل ذلك داخل ضمن بوتقة حديدية من عادات وتقاليد غير أخلاقية وغير إنسانية وغير حضارية تشكل مايدعى اليوم بثقافة الأمة ، هذه الثقافة المكرسة بين جهل وجهالات وجاهليات وبين استعمار عسكري تبعه استعمار اقتصادي إعلامي فكري، ومنذ أكثر من مائة عام لم تجر على هذه الثقافة أية مراجعات نقدية ، ، جعلنا الزواج أمراً تعجيزيا ، والطلاق مستحيلا ، منعنا تصريف ثورة العواطف والهرمونات بالطرق السوية، وفتحنا أبواب الوقوع في الموبقات على مصاريعها ، منحنا الذكور حرية مطلقة تخرج عن أطر الدين والعقل والمنطق ، وسلبنا الإناث كل نوع من أنواع الحرية باسم الدين والعقل والمنطق !، بعضنا ارتكب جرائم بحق أولاده من حيث يريد أن يصلح ، بعضنا الآخر مارس حجراً هائلاً على إنسانية أبنائه بحجة حمايتهم من أنفسهم !، أخطاء تكرست جيلا وراء جيل حتى بدا الأمر وكأنه لايمكن تغييره إلا على يدّ نبي مُختَفٍ ننتظر ظهوره ، ونحن لانفقه أن كل آليات التغيير ومفاتيحها موجودة بين يدي الإنسان ، الإنسان الذي يؤمن بالمسيح المنتظر ويمكنه أن يقوم معه بعمارة أرض ملأها الظلم ،.إنه مامن نبي يستطيع أن يغير مجتمعاً دون بشر يعضدونه ويؤمنون به ويدعمونه بمواقفهم وجهادهم وأموالهم وأرواحهم .
اشتغلنا باجترار الحديث عن القهر السياسي إلى درجة عميت فيها الأبصار والبصائر عن العفن الاجتماعي المستشري ، والذي لايريد أن يعرفه ولاأن يعترف به أحد!!.
لا تثير هذه الأخبار – التي مافتئنا نسمع مثلها وأعجب منها منذ خمسين عاماً- الاستغراب والاستهجان والخوف فحسب ، ولكن مايثير أبلغ أنواع الرفض والأذى إنما هي تعليقات القراء عليها ، هذه التعليقات التي يمكن أن تقدم وحدها الدليل الكافي والشافي لمن يعتقد بإصابة العقل "العربي" والمسلم منه على وجه الخصوص بأزمة حقيقية تحتاج إلى الدرس والبحث والتمحيص.
القاسم المشترك لمعظم هذه الإجابات هو الحديث عن "عجائب الدنيا ودلائل اقتراب يوم القيامة" ، وأن مانراه ونسمعه هو من علامات الساعة !، وبصرف النظر عن إن كان مانراه ومانسمعه هو من علامات الواقعة ، فإن انصراف العقل العربي بصورة دؤوبة إلى التفكير في الغيبيات كمبرر وحيد لوقوع وانتشار هذه الجرائم والظواهر في حياتنا ، يعني خللا واضحا في عمليتي التفكير والفهم ، فانتشار هذه الموبقات مرتبط مباشرة بالخلل الكبير الذي أصاب فهمنا لفلسفة الأخلاق وعملية التربية .
وعلى رأس ذلك تنزيل الإنسان منزلة الملائكة أو الشياطين ، فنحن لانحسن أن نفهم أن الإنسان إنسان ، لاملاك ولاشيطان ، وأنه إنما وجد في هذه الأرض ليعمرها كإنسان وليس كملاك ، ولكن العقل العربي المعاصر الغارق في الأوهام والمطبات الفكرية ، لايستطيع أن يفهم ولاأن يستوعب هذه الإشكالية ، وهي إنسانية الإنسان ، الإنسان الذي يخطيء ويصيب ، الإنسان غير المثالي ، وغير المتفوق ، وغير الملائكي ، وكذلك غير الشيطاني ، هذا الإنسان الضعيف بأخطائه وزلاته، القوي بقدرته على التوبة ، كما بقدرته على المسامحة والفهم والتجاوز وعدم تمرير كل الأحداث والوقائع والجرائم من إطار أحكام الشرع التي تفصل في هذه القضايا الشائكة ، ولكن من خلال مفهوم الشرع للإحسان والتجاوز والعفو عند المقدرة والترفع عن الأذى وإسقاط الحق الشخصي رحمة بالآخرين ، ورجاء ماعند الله بالستر على الناس وإكرامهم .
هذه هي روح الشريعة الاسلامية للتعامل بين الناس ، وتلك هي أحكام الشريعة الاسلامية للفصل بين الناس في خلافاتهم ، وشتان بين من يلجأ إلى الحكم وبين من يرتفع إلى درجة الإحسان في التعامل مع الآخرين . هذه هي الروح الأخلاقية السامية العليا التي نفتقدها في التعامل فيم بيننا جكاماً ومحكومين، في الدولة والأسرة والمجتمع ، في المدرسة والمسجد والعمل .
وهذا هو الإنسان الذي نفتقده في عالمنا وحياتنا ، هذا الإنسان الذي بنى الغرب على أكتافه مدنيته ومجتمعاته الحديثة ، وذلك على الرغم من افتقاده للقيم الأساسية التي تزخر بها حضارتنا من دون العالم . ماقيمة القيم الحضارية التي نملكها إذا وصلت الأمة إلى درك أن لاتحسن الاستفادة منها ، ولاأن تترجمها إلى سلوكيات في حياة أفرادها؟!.
يجب أن نعترف أن لدينا مشكلة ، خطيرة وعميقة ، في رؤيتنا للإنسان ، وفي فهم ملابسات التعامل الاجتماعي فيم بيننا على أساس فلسفة الأخلاق الإنسانية ، وليس على أساس قوانين الطوارئ والعقوبات .
نقطة أخرى على غاية من الأهمية في هذا السياق الذي يجد الرفض والمعاداة ممن وجدوا آباءهم على سنة وإنهم على آثارهم يهرعون دون تمحيص ولافهم ولامراجعة ولاتدقيق في صواب مايفعلون، وهي هذه الروح الكارثية التي تسيطر على الناس ، التبشير بالأوبئة الاجتماعية ، ونشر القصص الفضائحية وكأنها واقع ثابت منتشر في كل زاوية ومكان ، والحديث عن الأمراض الاجتماعية وكأن القيامة قد قامت وانشق القمر ، وأن الهلاك قد حلّ بالأمة ، وتعميم البلوى لدى الحديث عن الآحاد .
لايعني وقوع مثل هذه الأحداث أن الأمة باتت فريسة سهلة للدمار ، ولكنه يعني أن قدرتنا على معالجة الأمور هي التي أصيبت بالدمار ، أمراضنا الفردية والاجتماعية أصبحت دليلا على أمراض أخرى لابد من انصراف الأمة إلى تدبرها ، أمراض اجتماعية ونفسية وعقلية خطيرة تدار من خلالها العلاقات الإنسانية في مجتمعاتنا ، ولابد من تجنيد جيش من المختصين لمعالجتها بدلا من الندب عليها .
ونعود للحديث عن الدور الخطير للإعلام العربي في هذا المجال ، حيث يحصر المسألة في نظرة دينية شديدة الانغلاق على مفاهيم تعود إلى عصور مضت ولاتمت بصلة للعصر الذي نعيش ، والكارثة الحقيقية تكمن في ردود فعل الجمهور على مثل هذا الخطاب ، لقد التبس على الناس الخطاب الاسلامي بالاسلام نفسه ، وإن أي نقد نقدمه للخطاب الاسلامي أو الجماعات الاسلامية أو أساليب القائمين عليها في معالجة الأمور يُفهم ومباشرة بأنه نقد للاسلام ونصوصه ورجاله .
"دعاة الفضائيات " يحاولون القيام بجهود كبيرة لمعالجة مشكلات المجتمعات في المنطقة العربية ، ولكن معظمهم غير مؤهلين للقيام بهذا الدور ، وغير موفقين ألبتة في أدائه ، المختصون منهم في علوم النفس والعقل والتربية والمجتمع ، قلة نادرة موفقة من أمثال الأستاذ الدكتور "ابراهيم الخليفي" ، الذي يشرق على الناس كل أربعاء بحديثه المذهل في برنامج "موسوعة الأسرة" في تلفزيون الشارقة ، إذ يقدم رؤية علمية إنسانية متميزة لتربية الأبناء ولعلاقة الأبناء بالآباء ولعلاقات الأزواج فيم بينهم ، رؤية "إسلامية خالصة" يهدم بها كل ماعلق بالفكر العربي والاسلامي من آثار الجاهليات الثقافية المتراكبة في علاقة الإنسان بالإنسان ، ويبني من خلالها جدلية "إسلامية خالصة" جديدة لأساليب التفكير والسلوك التي ينبغي على المجتمع في المنطقة العربية أن يلتزمها إذا أردنا النهوض والخلاص والتغيير ، وهذه رؤية لايكفيها برنامج واحد في قناة واحدة ، ولكنها بحاجة إلى دعم مؤسسات إعلامية إعلانية ضخمة تعمل على برنامج سياسي إصلاحي اجتماعي واسع يمتد أعواماً عبر خطط ثابتة لإحداث التغيير المنشود في الفكر والسلوك ، فالتغيير الحقيقي لايبدأ إلا من أنفسنا ومن طرق تفكيرنا ومن أساليب حياتنا نحن الأفراد ، والتي صار من الواجب علينا أن نعيد التفكير فيها ألف مرة في ضوء العصر والتحديات والمشكلات التي تعيشها المنطقة اليوم ، حتى نستطيع أن نخرج من هذا النفق الاجتماعي والعفن الأخلاقي الذي ينخر في جسد الأمة ونحن عنه لاهون ندّعي أنه من الدين ، والدين منه براء