في حديثنا عن الصناعة الفلسطينية النامية ، فإننا لا نجد مناصا من الإنطلاق من حقيقة أن فلسطين وجراء محدودية مساحتها وطبيعة تضاريسها والظروف السياسية والأمنية المفروضة عليها منذ عقود ، تعاني نقصا في الموارد العامة والمصادر الطبيعية والتمويل الأمر الذي فرض تحديا اقتصاديا خطيرا على مواطنيها الفلسطينيين ، قل أن يكون قطر آخر قد عانى منه .
وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك سياستي الإلحاق والتبعية الإقتصاديتين المفروضتين على الشعب الفلسطيني جراء الإحتلال الذي جعل من الوطن سوق عمالة لتسيير آلته الصناعية وسوقا أخرى لاستهلاك منتجاته . وهذا بطبيعة الحال أدى إلى الإفتقار إلى بنية إقتصادية تحتية تقوم عليها صناعة فلسطينية وطنية متطورة .
ثمة عنصر آخر له اهميته القصوى ، يتمثل في منافسة البضائع الصينية ، إضافة إلى التركية . لقد أغرقت الأسواق الفلسطينية بهاتين البضاعتين ، وبخاصة الصينية . لقد أدى هذا الاغراق الى اقفال الكثير من المصانع الفلسطينية التي فقدت القدرة على المنافسة . واليوم حين يتجول المستهلك في الاسواق الفلسطينية فإنه نادرا ما يعثر على بضاعة فلسطينية .
إلا إن الإنسان الفلسطيني بما يتمتع به من ذكاء فطري ومكتسب ، وقدرة فائقة للرد على التحديات وإيجاد الحلول المعقولة لمشكلاته أيا كانت ، وكذلك بما يملكه من خبرات ومهارات عالية المستوى ، وقبل كل شيء إرادته وطموحاته وشعوره بأنه ليس أقل من سواه من الشعوب .
إن كل هذه العناصر شكلت بالنسبة له ثروة لم يتوان لحظة عن توظيفها واستثمارها في خلق صناعة طموحة إلى جانب مجالات أخرى في قطاعي السياحة والزراعة وكافة المرافق الأخرى . وهي بالتالي خطوة رئيسة في طريق الإعتماد على النفس والإستعداد لمستقبل يتفيأ فيه ظلال الحرية والسيادة والإستقلال.
في اعتقادنا أن المبادرين المستثمرين في حقل الصناعة الفلسطينية ، قد أصبحوا يدركون تمام الإدراك أن الصناعة لم تعد عملا فرديا هدفه الكسب الشخصي ، بقدر ما هي عمل جماعي يحمل الصفة الوطنية ، ويتدخل بشكل مباشر في رسم الصورة الحضارية والثقافية لأية جماعة إنسانية في عيون الآخرين ، وتحديد المستوى الذي على أساسه تحظى هذه الجماعة من خلاله بالإحترام والتقدير والسمعة الطيبة ، وأنهم يفترض بهم إدراكهم لحقيقة خضوع الصناعة لمقاييس ومواصفات عالمية من جهة ، وأخرى محلية تقتضيها الظروف الخاصة بكل جماعة ومجتمع .
وهي في نفس الوقت ليست تقوم إلا على تأمين القدرة على التمويل والتنفيذ والحفاظ على الجودة ، تحت مظلة من إدارة حديثة وتسويق باعتبارهما علما وفنا ، وكل هذه أمور شائكة معقدة تحتاج إلى خبرات واسعة منطلقة من معطيات إيجابية لدراسات جدوى اقتصادية شاملة .
ونحن لا نشك أن الصناعة الفلسطينية من هذا المنطلق واعدة بمستقبل يضيء مساحة معقولة من فضاءات الشعب الفلسطيني . إلا أن هذه الصناعة في نفس الوقت ما زالت تعاني من مشكلات كثيرة تحد من طموحاتها ، أو تعيقها كون كثير منها ما زالت تفتقر إلى الأسس السليمة التي لا ينبغي إغفالها لدى التفكير في إقامة صناعة تحمل صفة الحداثة.
وهذا يقودنا إلى حقيقة خطيرة تخص الثقة بالنفس . ذلك أن كثيرا من أصحاب المصانع المحلية مستمرون في الشكوى من أن المنتجات الأجنبية تنافس منتجاتهم المحلية على كل المستويات وتلتف عليها . كذلك فإن المستهلك يفضلها على مثيلاتها المحلية .وهذا يشكل مادة يمكن طرحها موضوعا للنقاش . كون المستهلك في احيان كثيرة على حق ، وفي اخرى يكون المنتجون المحليون على حق .
ففي الحالة الأولى هناك افتقار إلى الجودة المنافسة ذات المواصفات العالية ، وفي الحالة الثانية هناك الإفتقار إلى الثقة بالنفس والمنتوج المحلي أو العلامة التجارية المحلية . وهنا بالذات فنحن نفترض أن عقدة الأجنبي ما زالت إحدى العقد المستحكمة بنا بعامة وبمستهلكنا بخاصة ، والتي تجعلنا معا ننظر إلى كل مستورد أجنبي نظرة إكبار وإجلال على حساب محلياتنا ، والتي غالبا ما ننظر إليها باستهانة وصغار .
واذا ما جاز لنا فنحن نهمس هنا لصناعيينا أن التسميات الأجنبية لمنتوجاتهم المحلية وإلصاق العلامات التجارية باللغات الأجنبية عليها ، إضافة إلى تقليد الأشكال الصناعية الأجنبية ، لا يمكن لكل هذا أن يرفع من مستوى إنتاجهم ويجعله مفضلا لدى المستهلكين المحليين الذين هم من الذكاء بحيث يميزون بين الأصالة والتقليد والغث والسمين . وهو في نفس الوقت اعتراف مبطن ، أو حتى علني خطير من هؤلاء الصناعيين بتفوق المنتوج والإسم الأجنبيين على إنتاجهم .
إن الحل هنا في اعتقادنا يكمن في تطوير الصناعة الوطنية وإخضاعها للمواصفات والمقاييس العالمية في الجودة . وساعتئذ فإنها ستجد طريقها إلى المستهلك ، مهما كان اسمها أو علامتها التجارية ومكان إنتاجها ، فالجودة والجودة وحدها هي الأساس ، وهي التي تعبد قنوات الإتصال على أسس من الثقة بين المستهلك والمنتج .
إن معرض الصناعات الفلسطينية هو خطوة أولى على طريق متعددة المسارات والأهداف في عالم لا يحترم إلا الأقوياء الذين تسودهم ثقافة الإنتاج والإبداع والإبتكار ، وليسوا مجرد متلقين مقلدين في أسواق الثقافة الإستهلاكية.
وتظل الآمال معلقة على معرض صناعي دائم شامل متطور في إدارته ، وشاسع في مساحته ومتعدد ومتجدد في معروضاته ، يواكب روح العصر يحمل اسم فلسطين تشارك به كل الصناعات الفلسطينية بحيث تبرز أهم مميزاتها وعناصر الإبداع فيها ، ليكون نواة لمعرض فلسطين الصناعي الدولي المفترض أن يقوم على أرض خاصة بالمعارض على كافة أشكالها . والشعب الفلسطيني يتمتع بكافة الإستعدادات الفطرية والمكتسبة لترجمة كل هذه الرؤى والطموحات إلى واقع وحقيقة . وتظل هناك همسة ان رأس المال الفلسطيني متوفر إذا ما خلصت النوايا.