أقيم قبل ما ينوف عن عدة أسابيع محدودة معرض للصناعات الفلسطينية مؤخرا في مدينة نابلس . ويومها أثار أكثر من انطباع وتساؤل حول واقع الصناعة الفلسطينية ، والتحديات التي تحاول الطموحات الوطنية أن تتصدى لها ، على طريق مجمل النضالات الفلسطينية ، بهدف إعادة إبراز الوجود الفلسطيني في المكانة والمكان اللذين يستحق أن يحتلهما على خارطتي الوطن والعالم بالتالي.

 في حديثنا عن الصناعة الفلسطينية النامية ، فإننا لا نجد مناصا من الإنطلاق من حقيقة أن فلسطين وجراء محدودية مساحتها وطبيعة تضاريسها والظروف السياسية والأمنية المفروضة عليها منذ عقود ، تعاني نقصا في الموارد العامة والمصادر الطبيعية والتمويل الأمر الذي فرض تحديا اقتصاديا خطيرا على مواطنيها الفلسطينيين ، قل أن يكون قطر آخر قد عانى منه .
وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك سياستي الإلحاق والتبعية الإقتصاديتين المفروضتين على الشعب الفلسطيني جراء الإحتلال الذي جعل من الوطن سوق عمالة لتسيير آلته الصناعية وسوقا أخرى لاستهلاك منتجاته . وهذا بطبيعة الحال أدى إلى الإفتقار إلى بنية إقتصادية تحتية تقوم عليها صناعة فلسطينية وطنية متطورة .
ثمة عنصر آخر له اهميته القصوى ، يتمثل في منافسة البضائع الصينية ، إضافة إلى التركية . لقد أغرقت الأسواق الفلسطينية بهاتين البضاعتين ، وبخاصة الصينية . لقد أدى هذا الاغراق الى اقفال الكثير من المصانع الفلسطينية التي فقدت القدرة على المنافسة . واليوم حين يتجول المستهلك في الاسواق الفلسطينية فإنه نادرا ما يعثر على بضاعة فلسطينية .
إلا إن الإنسان  الفلسطيني بما يتمتع به من ذكاء فطري ومكتسب ، وقدرة فائقة للرد على التحديات وإيجاد الحلول المعقولة لمشكلاته أيا كانت ، وكذلك بما يملكه من خبرات ومهارات عالية المستوى ، وقبل كل شيء إرادته وطموحاته وشعوره بأنه ليس أقل من سواه من الشعوب .
 إن كل هذه العناصر شكلت بالنسبة له ثروة لم يتوان لحظة عن توظيفها واستثمارها في خلق صناعة طموحة إلى جانب مجالات أخرى في قطاعي السياحة والزراعة وكافة المرافق الأخرى . وهي بالتالي خطوة رئيسة في طريق الإعتماد على النفس والإستعداد لمستقبل يتفيأ فيه ظلال الحرية والسيادة والإستقلال.


في اعتقادنا أن المبادرين المستثمرين في حقل الصناعة الفلسطينية ، قد أصبحوا يدركون تمام الإدراك أن الصناعة لم تعد عملا فرديا هدفه الكسب الشخصي ، بقدر ما هي عمل جماعي يحمل الصفة الوطنية ، ويتدخل بشكل مباشر في رسم الصورة الحضارية والثقافية لأية جماعة إنسانية في عيون الآخرين ، وتحديد المستوى الذي على أساسه تحظى هذه الجماعة من خلاله بالإحترام والتقدير والسمعة الطيبة ، وأنهم يفترض بهم إدراكهم لحقيقة  خضوع الصناعة لمقاييس ومواصفات عالمية من جهة ، وأخرى محلية تقتضيها الظروف الخاصة بكل جماعة ومجتمع .
وهي في نفس الوقت ليست تقوم إلا على تأمين القدرة على التمويل والتنفيذ والحفاظ على الجودة ، تحت مظلة من إدارة حديثة وتسويق باعتبارهما علما وفنا ، وكل هذه أمور شائكة معقدة تحتاج إلى خبرات واسعة منطلقة من معطيات إيجابية لدراسات جدوى اقتصادية شاملة .
ونحن لا نشك أن الصناعة الفلسطينية من هذا المنطلق واعدة بمستقبل يضيء مساحة معقولة من فضاءات الشعب الفلسطيني . إلا أن هذه الصناعة في نفس الوقت ما زالت تعاني من مشكلات كثيرة تحد من طموحاتها ، أو تعيقها كون كثير منها ما زالت تفتقر إلى الأسس السليمة التي لا ينبغي إغفالها لدى التفكير في إقامة صناعة تحمل صفة الحداثة.


وهذا يقودنا إلى حقيقة خطيرة تخص الثقة بالنفس . ذلك أن كثيرا من أصحاب المصانع المحلية مستمرون في الشكوى من أن المنتجات الأجنبية تنافس منتجاتهم المحلية على كل المستويات وتلتف عليها . كذلك فإن المستهلك يفضلها على مثيلاتها المحلية .وهذا يشكل مادة يمكن طرحها موضوعا للنقاش . كون المستهلك في احيان كثيرة على حق ، وفي اخرى يكون المنتجون المحليون على حق .
ففي الحالة الأولى هناك افتقار إلى الجودة المنافسة ذات المواصفات العالية ، وفي الحالة الثانية هناك الإفتقار إلى الثقة بالنفس والمنتوج المحلي أو العلامة التجارية المحلية . وهنا بالذات فنحن نفترض أن عقدة الأجنبي ما زالت إحدى العقد المستحكمة بنا بعامة وبمستهلكنا بخاصة ، والتي تجعلنا معا ننظر إلى كل مستورد أجنبي نظرة إكبار وإجلال على حساب محلياتنا ، والتي غالبا ما ننظر إليها باستهانة وصغار .
 واذا ما جاز لنا فنحن نهمس هنا لصناعيينا أن التسميات الأجنبية لمنتوجاتهم المحلية وإلصاق العلامات التجارية باللغات الأجنبية عليها ، إضافة إلى تقليد الأشكال الصناعية الأجنبية ، لا يمكن لكل هذا أن يرفع من مستوى إنتاجهم ويجعله مفضلا لدى المستهلكين المحليين الذين هم من الذكاء بحيث يميزون بين الأصالة والتقليد والغث والسمين . وهو في نفس الوقت اعتراف مبطن ، أو حتى علني خطير من هؤلاء الصناعيين بتفوق المنتوج والإسم الأجنبيين على إنتاجهم .
إن الحل هنا في اعتقادنا يكمن في تطوير الصناعة الوطنية وإخضاعها للمواصفات والمقاييس العالمية في الجودة . وساعتئذ فإنها ستجد طريقها إلى المستهلك ، مهما كان اسمها أو علامتها التجارية ومكان إنتاجها ، فالجودة والجودة وحدها هي الأساس ، وهي التي تعبد قنوات الإتصال على أسس من الثقة بين المستهلك والمنتج .
إن معرض الصناعات الفلسطينية هو خطوة أولى على طريق متعددة المسارات والأهداف  في عالم لا يحترم إلا الأقوياء الذين تسودهم ثقافة الإنتاج والإبداع والإبتكار ، وليسوا مجرد متلقين مقلدين في أسواق الثقافة الإستهلاكية.


وتظل الآمال معلقة على معرض صناعي دائم شامل متطور في إدارته ، وشاسع في مساحته ومتعدد ومتجدد في معروضاته ، يواكب روح العصر يحمل اسم فلسطين تشارك به كل الصناعات الفلسطينية بحيث تبرز أهم مميزاتها وعناصر الإبداع فيها ، ليكون نواة لمعرض فلسطين الصناعي الدولي المفترض أن يقوم على أرض خاصة بالمعارض على كافة أشكالها . والشعب الفلسطيني يتمتع بكافة الإستعدادات الفطرية والمكتسبة لترجمة كل هذه الرؤى والطموحات إلى واقع وحقيقة . وتظل هناك همسة ان رأس المال الفلسطيني متوفر إذا ما خلصت النوايا.

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية