كنت على موعد مع "حودة" بلا سابق موعد ولا إنذار، رفع الستار عن "حودة" بمسرح مكتبة سوزان مبارك بالمعادى فى تمام الساعة الخامسة مساء فى يوم من الأيام الفائتة التى أصبحت وراءنا، إلا صورة حودة وأبيه التى كلما التفتت وجدتها أمامى. ضمن فريق أطفال الروضة للتمثيل كان "حودة" أو "محمود" الصغير الذى لا يتجاوز عمره الـ5 سنوات ولا يزيد طوله عن 5 أشبار بحجم كف يد متوسطة.
"حودة" الذى ظل لمدة ساعة ونصف، يغنى ويرقص ويمثل بتلقائية وبراءة، أدهش الحضور من الآباء والأمهات – وأنا منهم - فى حفل مدرسته الختامى.
ساقتنى الأقدار ورقم الدعوة التى أحملها للجلوس إلى جوار أبيه، الرجل الأربعينى الأنيق الذى حضر حفل الصغار فى كامل أناقته.. بدلة.. كرافت.. وجلس ممسكاً كاميرته الديجيتال وفى جيبه موبايل حديث. كنت أعتزم مشاهدة ميسون ابنتى فحسب، ولكن حودة أيضاً انضم إلى قائمة مشاهداتى الممتعة، ضمن فريق الكورال غنى حودة "اللى بيسمع كلمة أهله شو بنإله.. شاطر.. شاطر" وهنا فوجئت بأبيه يهتف بصوت جهورى "شاطر.. شاطر" مع حودة والأطفال، وكانت هذه هى بداية الرحلة لأبى حودة.
لم يترك الرجل "الأب" فرصة دعم لـ"حودة" ولا تشجيع إلا فعلها، تصفيق حاد فى نهاية كل فقرة، تصاحبها كلمات من أمثلة "هايل"، "برافو"، "رائع"، وتصفير وصراخ إعجاب، وقبلات طائرة فى الهواء باتجاه "حودة"، وإشارات بعلامة النصر والامتياز، ناهيك عن التصوير بكاميرته الديجتال التى نفد شحن بطاريتها، فاستعاض عنها بكاميرا الموبايل، يلتقط الصور، ومقاطع فيديو، لـ"حودة" وهو فى عرض نوبى على أنغام أغنيه "نيجربيه" لمحمد منير، ومرة أخرى فى ملابس هندية وعلى أنغام هندية فى عرض هندى، ومرة ثالثة فى أوبريت "سنوحى"، ومرة رابعة وهو يغنى مع الكورال "أنا عندى بغبغان"، و"فى نور الهادى أحمد"، و "the wheel of the bus ".
كانت أم حودة تجلس واثنان من أولادهما إلى جوار الوالد المشجع، وعندما ظهر حودة على المسرح فى المرة الأولى قفز الرجل قائلاً: "أهوه حودة أهوه.. شاورى له يا منى"، وفى منتصف العرض تقريباً رن جرس هاتفه المحمول فرد عليه قائلاً: أيوه يا ريس، تمام، حاضر، ربع ساعة وينتهى حفل ابنى وأكون عندكم، علقت زوجته قائلة: فيه إيه؟ فرد عليها: لا أبداً ده رئيس مجلس الإدارة.. كلها ربع ساعة ويخلّص حودة وأروحكم وأرجع ع الشغل.
أين "حودة" من ذلك كله؟!
تصيبك الدهشة من قدر التواصل البصرى الرائع الذى كان ممتداً بين حودة وأبيه، ونظرات الثقة والفرح والحبور التى تطل من عينيه وتتفجر من وجنتيه، بالإضافة إلى أدائه العالى المستوى. ولا تستطيع فى النهاية أن تعلق أمام المشاهد الحية الدافقة الدافئة تلك إلا أن تقول، الله ما كل هذه الروعة!
إنها الأبوة عندما تتفجر فى (الرجل).. فتخرج أحلى ما فيه وما عنده، لا أدرى هل كان يدرك والد حودة ما يفعله بابنه الصغير أم لا. هل يدرك أنه – بما كان يفعل - أعظم مرشد نفسى، وأجمل تربوى، وأكثر البنائين فخراً فى المستقبل – لو استمر على ما هو عليه – ببناء سوى اسمه "حودة"؟! وأنه لم يفد ابنه فحسب، بل وأهلّه من حيث لا يدرى لأن يكون هو الآخر أبا صالحا رأى أبيه النموذج والقدوة، فأنى لـ "حودة" أن يحيد!
(مبروك.. مبروووك..
يا حياة قلبى مبروك..
الليلة فرحتنا.. والفرحة فرحتنا..
شو حلوة دنيتنا..
مبروووووك..
مبروك).
هذه هى أغنية ختام الحفل التى زادت من أجواء البهجة والفرح.. وبالفعل "مبروك".. ليس لنجاح الأبناء وانتقالهم من مرحلة إلى أخرى فحسب، وإنما مبروك أيضاً لـ"حودة" أن جعل الله من نصيبه هذا الأب الجميل، الذى كان حودة لديه أهم من رئيس مجلس الإدارة، والذى كان حضوره إضافة حقيقية لفتت انتباه معظم الحضور إلى حودة.
لم يحضر بنفسية ملولة أو متأففة، ولم تعوقه "تكتيفة البدلة" لأنه اتكأ على مشاعره التلقائية الحارة فحررته، ولم يكتف بإنابة الـ"ماما" إلى "حفلة العيال"، وإنما جاء فى كامل قواه العقلية.. وبروح عالية.. ونفس مشرقة فكان (حالة) من (الاهتمام)، وأوجز بحضوره معنى "الوالدية"، أراد بإخلاص أن يجعل من ابنه نجماً للحفل وربما للحياة، فصار هو الـ"نجم"!
وهكذا كل أب.. مثله.. أو.. أكثر.. لأننا نحتاج بالتأكيد.. أكثر .