يعتبر «المؤتمر القومي-الإسلامي» الذي ولدت فكرته على هامش ندوة الحوار القومي الديني التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالقاهرة عام 1989، بتطور منتدياته وانعقاد دوراته المتلاحقة، واهتمام شخصية كالعلامة المجدد د.يوسف القرضاوي به، ومعه كوكبة من النخبة في الفكر والعمل الإسلامي والقومي والنضالي الجهادي، من المسلمين السنة والشيعة وغيرهم، 

ومن النصارى ومن مختلف الاتجاهات العرقية والدينية والفكرية والسياسية في كثير من بلدان المنطقة، يعتبر هذا المؤتمر بعنوانه وأهدافه، وتطور أعماله حتى الساعة، رداً في غاية من الأهمية على الأوضاع المزرية التي تعيشها المنطقة العربية سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإنسانيا من جهة، واستجابة ضرورية للطرح التفتيتي الدؤوب للمنطقة على هامش القضية الفلسطينية، وما استجد من عودة الاستعمار العسكري إلى المنطقة العربية، واستئناف إسرائيل لدورها التأديبي الاستئصالي الإبادي لكل من حاول من شعوب المنطقة أن يقف على قدميه في حركة مقاومة.

لعلنا ضيعنا 50 عاما في صراعات قومية-إسلامية لا تسمن ولا تغني من جوع، الإسلاميون في المعارضة العنيفة والعمل السري وثقافة الموت، والقوميون في السلطة وثقافة الاستبداد والأرض المحروقة!، الإسلاميون اليمينيون الإقصائيون في السلطة، والقوميون في العمل السري التدميري!، وبين هؤلاء وهؤلاء وتبادل الأدوار فيما بينهما إذاعات تُجعجع، وكتاب يشرعون الأقلام لتأجيج نيران التفرقة والتشرذم، ودول عظمى استخدمت هذا الصراع لإدارة حروبها الباردة، التي كانت باردة وفقط في أراضيها، بينما النار تأكل الأخضر واليابس في أراضينا، والأرواح تُحصد بالآلاف في أرجاء هذه المنطقة ودون هوادة ولا رحمة، وحروب أهلية لم يسقط القناع عن وجهها المخيف إلا في لبنان، بينما كانت تجري لدى تخومه أعمال وفظائع بين السلطات والمعارضات يندى لها الجبين، فمن معارضة تفجر وتقتل ودون رحمة المئات، إلى حكومات تدك بعض «المخيمات» أو المدن التي أعلنت الثورة بالدبابات والطائرات المقاتلة، إلى سلطات تستأصل قبائل كاملة وتدفنها حية بسبب أن أحد أبنائها قد أعلن العصيان، إلى معارضات تجرأت على الحرم المكي تستعرض عضلاتها في ساحاته المقدسة، فظائع شاركنا جميعا في التفكير بها والصمت عنها ثم في التستر عليها، وعدم ذكر أصحابها بأسمائهم، ليس خوفاً منهم ولكن حفاظاً على ما تبقى من لُحمة لهذه المنطقة، وليس جبناً أمام الوقائع المتواترة الثابتة، ولكن استنقاذاً للبقية الباقية من فسحة الأمل بتغيير تحقن فيه الدماء ويكون فيه للحوار مكان.
يخطئ كل من يظن أن العلة كانت دائما في الاستعمار ومؤامراته، أو في استبداد الحكام بالعباد والبلاد في المنطقة العربية، يخطئ في اتجاهين، الأول: في صرف النظر ودائما عن الجرثومة الحقيقية التي تنخر في جسد المنطقة، والثاني في خرق أهم سنة إنسانية تاريخية من سنن التغيير الاجتماعي والفكري، وهي الالتفات نحو الذات واتهامها.

في جلسة فكرية بحثية استثنائية جمعتني مع أستاذ جامعي كان من أهم أقطاب التيار الإسلامي الكويتي، قبل 10 أعوام، ومن حيث لم يرد.. أيقظ الرجل لديّ ضرورة البحث حول دور كل من الإسلاميين والقوميين في الحال الذي وصلت الأمة إليه اليوم، وذلك في معرض 10 أسئلة طرحها علي حول الفئتين، ولم يعجبه ما توصلت إليه في تلك الجلسة بالغة الأهمية، فكتب بعد أيام مقالا مطولا استخدم فيه كل المعطيات الفكرية الهامة والخطيرة التي توصلنا إليها ليؤكد على الظلم التاريخي الذي لحق بالإسلاميين في المنطقة العربية!! هذه العقلية الانتهازية الاستفزازية، التي تنتشر بين كثير من الإسلاميين في المنطقة العربية، والتي تتجلى في أوضح صورها في الإعلام الإسلامي المكتوب والمسموع، عملت على تدمير مصداقية المرجعية الفكرية الإسلامية لدى فئات لا يستهان بها من شعوب المنطقة، والمرجعية الفكرية الإسلامية شيء، والهوية الدينية للشعوب شيء آخر كما هو بديهي!

القوميون في السلطة، كانوا من الدموية والتوحش والإجرام بمكان فاق قدرة الناس على استيعاب ما يجري، لقد استخدمت الحكومات التي نعتت نفسها بالأوصاف الثورية والتقدمية والقومية العربية، كل وسيلة ممكنة لسحل الآخر وإقصائه بعيدا عن الإنسانية والمنطق والأخلاق، وسخرت سطوة الإعلام الجبارة لغسل العقول وصياغتها بما يتوافق مع النظرية القومية العربية التي فرضت فرضا بسلطة إرهاب الدولة على الرقاب، معتقلات وسجون تشيب لهول ذكرها الولدان، وخوف وقمع وإبادة لكل من يفكر مجرد تفكير في دحض أو تغيير أو نقد، ليس دحض وتغيير ونقد الفكرة القومية أو العروبية، ولكن دحض وتغيير ونقد الحاكم، لقد انتقلت الأنظمة الثورية القومية من ساحة النضال القومي من أجل القضية إلى ساحات الاستبداد الموغل في الإجرام على كل صعيد من أجل الاستئثار بالكراسي.
ولم تكن الأنظمة غير القومية وغير الثورية أفضل حالا على الإطلاق فيما يتعلق بمعاملة شعوبها ولا باستئثارها بالكراسي، ولكنها كانت أقل حظا في ساحة الإعلام، التي ربحتها الأنظمة الثورية بفضل طول جعجعتها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، حتى تم افتضاحها عشية تلك النكسة الحزيرانية، التي نالت فيها المنطقة رجفة وإصابة قلبية دماغية لم تخرج منها إلى اليوم.
إنها مراجعات على غاية من الأهمية، لا يمكن أن تنجز في مقال فكري، ولا في 100 بحث أكاديمي قانوني قضائي، ولكن لا بد من الإشارة إليها في معرض الحديث عن مصطلح «المنطقة العربية» اليوم، هذا المصطلح القديم الجديد، بالغ الأهمية والضرورة، في عالم المصطلحات التي تسبح اليوم في فلك إعلامنا وأدبياتنا، وآبار جامعاتنا المعطلة عن الإنتاج، رغم وجودها في قصور مشيدة وحدائق صامتة.
المراجع لوثائق المؤتمر «القومي-الإسلامي»، يذهل أمام تعويم المصطلحات، «الأمة العربية»، «الأمة الإسلامية»، «الأمة العربية الإسلامية»، «القومية»، «الإسلام»، «الديمقراطية»، «الثقافة»، «الحضارة»، «الثورة»، «الحركة»، «المرجعية»، «الهوية»، كمٌّ هام من المصطلحات التي استخدمت، ولكننا لا نجد لها تأصيلا، ولا ضبطا، بحيث تشكل مرجعية حقيقية لفهم السياق العام، وهذا أمر لا يختص به المؤتمر المذكور، ولكنه عام في كل أحوالنا السياسية والفكرية والفلسفية والإنسانية، لكن اللافت للنظر فيما يخص المؤتمر القومي الإسلامي، هو اهتمامه الكبير بالشكليات والهياكل، واعتماد وثائقه ونصوصه على التعويم العام لهذه المصطلحات، بحيث انقلب هو الآخر ليصبح مؤسسة إضافية من مؤسسات المنطقة العربية التي تقتصر مهامها على إصدار بيانات الشجب والإدانة في مختلف مناسباتهما!، لكن مثل هذه الملاحظة الضرورية، لا تنقص من الأهمية البالغة لمثل هذا المؤتمر في سياق بحث المنطقة العربية عن الذات فيما بين القرنين، إذ يكفي اسم هذا المؤتمر ليكون عنوانا لورقة عمل استثنائية للبدء في مشروع تفكير فلسفي ضخم لإعادة تعريف المصطلحات، ومن ثم صياغة الرؤى الضرورة لتوليد نظرية حقيقية علمية تقوم عليها البنى الفكرية السياسية في المنطقة العربية خلال المرحلة المعاصرة.
عندما أقول إن القرضاوي كان مجدداً، لا أقصد التجديد في فهم الدين ووضع الفتاوى المعاصرة الشجاعة الملائمة لمتطلبات الناس، ولكنني قصدت بذلك تجديد الفكر الإنساني والاجتماعي والفلسفي الخاص بالإنسان في هذه المنطقة من العالم، لقد جاء العلامة القرضاوي بنظرات على غاية من البساطة حلّ من خلالها مسائل معقدة ومعلقة في المنطقة منذ 100عام، وأخرى انغلق فهمها على الناس اليوم تعلقت بمسائل تعود إلى قرون!، وبينما بنت المسألة القومية العربية جدليتها القمعية والاستئصالية على وضع النصارى العرب، يأتيك القرضاوي بنظريته لفهم العلاقة بين المسلمين والنصارى في المنطقة العربية حيث يقول: «إنهم إخواننا في الإنسانية، نصارى الدين، مسلمو الثقافة»، وكذلك نظرته للحروب الصليبية ووضع نصارى العرب في هذه الملحمة التاريخية، إذ يفند: «الصليبيون هم الفرنجة الغزاة، أما نصارى المنطقة فهم أهلها وأصحابها وقد دافعوا عنها ضمن من دافع ضد الغزو الصليبي»، وقد أمسك الكاتب الفذ الدكتور وليد سيف، والمخرج المبدع حاتم علي بالخيط من الدكتور القرضاوي ليخرجا على العالم بمسلسل «الناصر صلاح الدين الأيوبي»، الذي اعتمد بشكل كبير على هذه النظرة القرضاوية للعلاقة بين النصارى والمسلمين في المنطقة العربية، فكان لهذا المسلسل دور غير مسبوق في بناء تصور فكري جديد في المنطقة حول هذا الموضوع -من جهة المسلمين على الأقل- التقطتها منه هوليوود وسرقت فكرته وأنتجت فيلم «مملكة السموات»، واستضافت فيه أحد أبرز الممثلين في مسلسل صلاح الدين الأيوبي!

المشكلة لا تكمن في إنشاء مؤتمر يجمع القوميين والإسلاميين «لجسر هوة الخلاف التاريخية، والتوصل إلى توافق على المستقبل» كما تكرر في وثائق المؤتمر القومي الإسلامي، ولكن في قدرتنا على التغلب على ضبابية الرؤية لدينا، وشجاعتنا الحقيقية في اعترافنا بفشل هذه المشروعات إسلامية كانت أم قومية في التعبير عن إرادة الشعوب التي تنتمي إلى قوميات ورسالات دينية وطوائف شتى في المنطقة العربية أولاً، وفي التحدي الكبير الذي ينتظرنا في إعادة غربلة الفكر القومي والفكر السياسي الإسلامي المعاصرين، والعمل على إنتاج فكر تجديدي حقيقي وصياغة نظرية سياسية اجتماعية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مقومات وحدة شعوب هذه المنطقة، في الوقت نفسه الذي لا تضرب فيه صفحا عن الخصوصيات القومية والدينية والعرقية لمختلف هذه الشعوب التي طالما تعايشت في سلام وتعاون تحت ظل القيم الحضارية الإسلامية الواحدة التي يرضاها الجميع، ولطالما كتبت وقرأت وأدت عباداتها باللغة العربية الوحيدة التي تضم الجميع.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية