ماأزال أذكر تلك الحملة الهائلة التي قادها أحد أهم مساجد دمشق الحديثة قبل ثلاثين عاما، والذي كان محاطاً بالمراكز الثقافية والحضارية في منطقة سكنية مرموقة تخلى معظم أهلها عن كثير من المظاهر الموروثة من "ثقافة" البلد – ولاأقول دينه ، والثقافة غير الدين!- ، أو بعبارة أوضح: من أولئك الذين كانوا قد هاجروا من "باب الحارة" أو قرروا بناء حارة لاباب لها ولابوّاب!

حملة تحت عنوان "التزام الحجاب" ، لكن المفاجأة كانت في استغراق إمام المسجد أربعة أسابيع كاملة غير منقوصة في إقناع مئات الحضور الذين غص بهم المسجد بأن الحجاب هو "المنديل" ! ، و"المنديل" في لغة أهل الشام يوازي تقريبا النقاب في لغة أهل مصر ، والبرقع في لغة أهل أفغانستان ، مع اختلاف الشكل واللون ، وتطابق الوظيفة ، والتي هي ستر وجه المرأة عن أعين المتربصين والمتطفلين والشهوانيين والقذريين والمهووسين جنسيا وعقليا والمتحرشين والمطففين ممن يمنحون أنفسهم ويمنحهم المجتمع بسكوته عنهم حقوقا جائرة تطفيفية . لم يتحدث الامام –وهو أستاذ وأخ عزيز- عن فلسفة الحجاب الأخلاقية أو الاجتماعية والانسانية في الاسلام ، كان الحديث وخلال شهر كامل محصوراً وفقط في إفهام الحضور أن كلمة "حجاب" في الاسلام تعني أن تغطي المراة وجهها بالكامل ، نتيجة تلك الحملة بالطبع كانت هروب النساء وخاصة الفتيات من تلك الدروس والمحاضرات ، وفرارهن من هذا المعنى المبالغ في التضييق لمعنى الحجاب وروحه .
في تلك الأيام أجريت بحثا شمل مقابلات مع بعض علماء دمشق معظمهم من أساتذة كلية الشريعة يومئذ ، وكان من أهم هؤلاء العلماء ، أكبرهم سناً وأوسعهم علماً الشيخ الدكتور الطبيب رفيق السباعي العلامة تلميذ العلامة الشيخ بدر الدين الحسيني محدث الشام وفقيهها في الفترة مابين القرنين التاسع عشر والعشرين، وكان إجماع هؤلاء العلماء في هذه القضية منصباً على أن النقاب ليس هو الحجاب وأنه ليس الحجاب الشرعي المنصوص عليه في القرآن والسنة ، وأضافوا جميعا عبارة "ان ستر الوجه مطلوب في حال لم تؤمن الفتنة " ، وزاد السباعي رحمه الله : "كلمة مطلوب لاتعني هنا الالزام الشرعي ولكن "العرف الاجتماعي"، باعتبار العرف بالنسبة إليه ملزما"! ، ولعل بعض القراء من جيلي يعرف أو يذكر الخلاف الكبير الذي نشأ بين الشيخ رفيق السباعي في حينه وبين الشيخ ناصر الألباني حول هذه المسألة وغيرها حيث كان الألباني من أشهر من قال بجواز كشف المرأة وجهها.
 
حضرتني هذه القصة الدمشقية وتلك الخواطر القديمة الحديثة، وأنا أشهد الحملة التي تُشَن اليوم على "ساركوزي" لهجومه على "الحجاب" وقيم ومباديء الاسلام وحضارته!!! –كما قالوا- !! ، وبما أنني ومنذ زمن لاأتابع أخبار الفضائيات ولاأستقي منها معلوماتي ، أجريت بحثا "غوغولياً"  عما قاله الرجل وبأكثرمن لغة لأتأكد مما تنقله فضائياتنا المشهورة بعدم الدقة فيم تنقل من أخبار !، لأجد أن "ساركوزي" كان قد  تحدث عن "النقاب" ، أي عن غطاء الوجه ، هذا النوع من اللباس الذي بدأ يزحف إلى أوربة كمشكلة جديدة تنضاف إلى مشكلات المسلمين اليومية في إطار تعايشهم وتعاملهم مع المجتمعات الغربية التي تجعل من حياتهم في أوربة ووجودهم فيها جرحا مؤلماً، من أين نشأت المشكلة ؟ ولماذا تطرق إليها الرئيس الفرنسي زوج عارضة الأزياء التي كانت تعرض جسدها عارية أمام أعين الكاميرات العالمية؟!، وهل فعلا ماحدث كان هجوما على الاسلام وقيمه وتعاليمه؟! وماهي حقيقة وضع النقاب في فرنسة وفي سائر الدول الأوربية ؟!، وهل هذه فعلا هجمة على الاسلام وقيمه وتعاليمه؟!!.
 كلام الرئيس "ساركوزي" – ولست ممن يدافع عن مثله، وقد كان وزير خارجية فرنسا الذي قضى بمنع الحجاب في المدارس والمؤسسات الحكومية – أتى في سياق رده المباشر وغير المباشر على ماغمز به أوباما فرنية ولمزها في قضية الحجاب ، ولكن كلام الرجل يأتي كذلك نتيجة تفاقم مشكلة حقيقية يجد فيها المجتمع الغربي نفسه عاجزا عن التعامل مع ظاهرة يدّعي بعضنا هنا في أوربة - وهم قلة نادرة- أنها من الاسلام بينما الأغلبية الساحقة في طول أوربة وعرضها من المسلمين ومن جميع الانتماآت السياسية والطائفية والمذهبية تقول بأن هذا النقاب ليس هو الحجاب الاسلامي! ، جرأة الرئيس الفرنسي على الحجاب في حينه كان منشؤها اعترافات كثير من الفتيات المسلمات المحجبات الصغيرات في المدارس بأنهن مرغمات على التزام الحجاب من قبل الذكور وليس بسبب خيارات شخصية ،  إضافة إلى مبالغة أخريات في التزام حجابات "سياسية" أحدثت في بعض المدارس مشادات عنيفة بين الطوائف الاسلامية نفسها فضلا عن خلافات هؤلاء الطالبات مع بقية التلاميذ  في المدارس ، أي وبعبارة أوضح : لقد كان تنطع بعض المسلمين في قضية الحجاب في المدارس الفرنسية سببا في سن تلك القوانين التي منعت فيها فرنسة الرموز الدينية في مدارسها وعلى رأسها الحجاب ، وكان ذلك سببا في الظلم الفاحش الذي لحق بنات المسلمين ممن يلتزمن بقرارات شخصية حرة حجابا إسلاميا طبيعيا لاتنطع فيه ولامغالاة ولاسياسة!!، وأما هجوم ساركوزي الحالي على النقاب فمنشؤه هذا الخلاف الفقهي العميق بين المسلمين أنفسهم فيم يتعلق بالنقاب ، وما يتسبب فيه هذا اللباس من مشكلات حقيقية في المجتمعات الغربية بالنسبة للمرأة المسلمة وأسرتها وأولادها والمسلمين من حولها من جهة ، وبالنسبة للمجتمع الذي يتعامل معها من جهة أخرى، ولقد رأيت بأم عيني هنا في مدريد مسلمات محجبات يتبرأن من المنقبات من صديقاتهن أو جاراتهن إذا اجتمعن بهن في مستشفى أو سوق بسبب مايتسبب به هذا اللباس من عناء ورفض ومشكلات .

المشكلة الأساسية إذاً هي مفهومنا نحن المسلمون عن فلسفة الحجاب ، ومفهومنا عن إنسانية المرأة ووضعها في الاسلام ، لأن الخلط الفاحش والهائل الذي يناقش به المسلمون هاتين القضيتين في بلادنا وفي أوربة هي السبب الرئيس وراء تجرُء الآخرين علينا ، مستفيدين من هذه الثغرات الخطيرة في جدران مفاهيمنا المعاصرة عن ديننا والتي رفعناها على أساس من العادات والتقاليد التي ماأنزل الله بها من سلطان ، وعلى أسس نظرات محلية قومية إثنية بالغة التضييق أردنا أن نعممها على عالم فسيح خلقه الله مختلفا بعضه عن بعضه في الفهم والادراك ، فكانت نتيجة بنائنا الخاطيء أصلا أن آتى الله بنياننا ذلك من القواعد فخرّت علينا كل السقوف من فوقنا وأتانا العذاب من كل حدب وصوب وجلسنا نندب حظوظنا العاثرة في الهجمة الدائبة على الاسلام وقيمه وحضارته!! ، وليس فيم نقدمه للعالم اليوم شيء من روح الإسلام وقيمه وحضارته وفلسفته!!.

من أين نبدأ في هذه المشكلة الأخطبوطية التي تعيدنا إلى مربع نقاشاتنا الأول في حديثتا عن علاقة السياسي بالاجتماعي بالفكري والانساني في حياتنا ، والتي تطرح نفسها علينا بشكل شائك خطير؟! ، وتحتاج إلى تفصيل  فسيفسائي الحكمة للقمان الحكيم، فهو ليس حكما مسطحاً خاصا بتنازع امرأتين على طفل تدّعي كل منهما أنها أمه!!، ولكنه حكم لقمان إذا طلب منه السير في حقل مزروع بألغام عنقودية يراد منه أن يخترقه دون أن يسير يمينا ولاشمالا ولاإلى الأمام ولا إلى الوراء وأن لايستخدم أية آلة كاشفة ولابوصلة ولاجوال ولا لاسلكي ودون استعمال للانترنيت ولا للغوغل ولا حتى عن طريق الحاسة السادسة!! ، وأن يكتشف في ذات الحين كل لغم أين هو وكيف زرع ومتى سينفجر ، ودون أن ينفجر تحت قدميه عليه السلام!!.
لايمكن الحكم على شيء بعيد عنك ك"النقاب في أوربة" من خلال تصوراتك المحلية عنه ، خاصة في ظل الخلافات الفقهية العميقة جدا فيم يتعلق بهذا الأمر كما أسلفت في القصة السابقة ، بين من ينادي بأن الحجاب هو النقاب وبين من يقول أن الحجاب هو ستر الجسم ماعدا الوجه والكفين ، وبين من يقول أن هذه الصورة التي نراها اليوم ليست إلا عادة تركية شرقية غير عربية أصلا دخيلة على الاسلام ومفاهيمه وتعامله مع المرأة .

ولابد من التوضيح وقبل الخوض في هذه المخاضة "القاتلة" ! أن الفرق كبير جدا بين رؤية المدنية الغربية لقضية المرأة بما فيها من ايجابيات وسلبيات هائلة ، وبين رؤية الثقافات السائدة في بلادنا للمرأة بما فيها من خرق لإنسانيتها واستلاب لحريتها ، وبين الاسلام ..هذا المظلوم الأكبر في قضية المرأة ، الاسلام الذي منح المرأة كرامتها الإنسانية وحريتها الشخصية ومكانتها الأسرية والاجتماعية ، وبين هذه التيارات الثلاث تكمن كل القضية ، في رؤيتنا ورؤية الآخر للحجاب والنقاب ، ويكمن وجه من أوجه مشكلة  " ساركوزي " وأوربة اليوم مع المسلمين وليس مع الاسلام ، لأن المعضلة الحقيقية هي في أنفسنا وفي فهمنا لديننا وفي عجزنا عن البحث عن الصيغ الانسانية الحضارية الاسلامية التي يمكننا أن نقدمها إلى عالم متعطش الى حلول وسط تجمع عليها البشرية.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية