لا يمكن لأية افرازات احتلالية ، وهي كثيرة ودائمة وخطيرة ، وقد دخل الإحتلال الإسرائيلي لما تبقى من فلسطين عام 1948 ، عامه الثالث والأربعين ، ان يجعل من القدس الشريف والأقصى المبارك قضية ثانوية ، او ان يتمكن من وضع ملفهما على رف النسيان ، او بصحيح العبارة ان لا يكونا مهوى افئدة المنتمين اليهما عقيدة وتاريخا ، برغم كل الاساليب القمعية التي تنتهجها السياسات الاسرائيلة المتمثلة باغلاق القدس واغتصابها وتهويدها ، وبرغم النوايا الشريرة التي تتربص بالمسجد الأقصى المبارك . لقد ظلت القدس بالنسبة للفلسطينيين قضية ذات ابعاد متعددة . فالى جانب كونها عاصمة سياسية لدولتهم الفلسطينية العتيدة التي يصرون ان تتبوأ مكانها على خارطة العالم السياسية ، فهي قبل هذا وذاك عاصمتهم وعاصمة اشقائهم الروحية في العروبة والاسلام . وحسبها انها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، ومسرى الرسول الأعظم محمد صلّى الله عليه وسلم ومنها عرج الى السماء .الا ان الايمان بالحق والاصرار على استرجاعه من قبل اصحابه الشرعيين شيء ، وما جرى وما زال يجري على ارض القدس من تغييرات اساسها التهويد الجغرافي والديموغرافي من قبل الاحتلال الاسرائيلي هو شيء آخر . وهذا الشيء الآخر له خطورته كونه يأتي تنفيذا لمخطط افتراس القدس المستمر ، هذا المخطط الذي تفرز كل حركة من تحركاته تحديا سافرا للعرب والمسلمين اينما كانوا وتواجدوا بعامة ، والفلسطينيين بخاصة . الا ان الاخطر من ذلك ان السياسة الاسرائيلية ايا كانت الوان طيفها تستثني الحديث عن القدس من اية تسوية مع الفلسطينيين ، ولا تشكل من منظورها مدخلا الى اعتراف الانظمة العربية والاسلامية باسرائيل او التطبيع معها . ان إسرائيل تصر على ان تكون القدس موحدة وعاصمتها التاريخية ، وخارج اطار أية تسوية .لقد تمادت السياسات الاسرائيلية كثيرا فيما يخص اغتصاب القدس ، وغذت الخطى في وتيرة تهويدها ، كون هذا الفعل الاسرائيلي لا يلقى ادنى رد فعل عليه من قبل الانظمة العربية والاسلامية ، والتي اصبحت قضية القدس لا تحتل ادنى مساحة من اجنداتها السياسية أو غير السياسية ، الامر الذي اضاء ضوءا اخضر مستداما للحكومات الاسرائيلية كي تعمل براحتها على تنفيذ كل مخططات تهويد القدس ، وانتزاعها شبرا شبرا من ايدي اصحابها الشرعيين ، ولتصبح اسرائيل قيّمة على مقدساتها التي يفترض انها وقف لكل المسلمين .واسرائيل في هذه الايام تعمل ، فيما يخص القدس ، في ثلاثة اتجاهات بغية تحقيق ثلاثة اهداف استراتيجية . الهدف الاول يتمثل في تحقيق مشروع القدس الكبرى متوغلة ما ينوف عشرات الكيلومترات خارج حدود بلدية القدس باتجاه البحر الميت . وهذا لا يتسنى لها الا على حساب مصادرة المزيد من الاراضي الفلسطينية ، بالاضافة الى ما سبق وصادرته من اراض اقامت عليها حزاما استيطانيا حول القدس على مدى سنوات احتلالها .والهدف الثاني ، وهو ليس منفصلا عن الهدف الاول ، ويتقاطع معه في كل النقاط ، ويتمثل في إيجاد قدس ذات طبيعة جغرافية وديموغرافية تهويدية ، يصر الاسرائيليون ان لا تكون على اجندة مفاوضات الحل النهائي ،هذا اذا ما كتب لها ان تكون ، اضافة الى كونها تحول دون تحقيق الحلم الفلسطيني بان تكون عاصمة دولتهم العتيدة .واذا كان هذان الهدفان الاول والثاني يخصان الى حد كبير الفلسطينيين ودولتهم وعاصمتهم ، فان الهدف الثالث الذي نحن بصدده يخص العالمين العربي والاسلامي ، ويتمثل في خلق اجواء عاصفة مشحونة بالتشنج تحيط بالمسجد الاقصى المبارك ، ومسجد قبة الصخرة المشرفة اللذين كانت المخططات الصهيونية لهما بالمرصاد منذ الاحتلال الاسرائيلي للقدس عام 1967 .ومن هذه الامثلة التي لا حصر لها محاولة احراق الاقصى في آب اغسطس من العام 1968 ، وشق النفق في اساساته ، وما تخطط له بخصوص المصلى المرواني ، وآخرها لا أخيرها ما يجول في افكار متدينيها حول اقتسام حرم المسجد الأقصى المبارك . وفي هذه الأيام أخذت جماعات يهودية متطرفة تدعو إلى اقتحام المسجد الأقصى والصلاة في باحاته . ونحن لا ننسى الحملة التحريضية لهدم الاقصى كتعويض للمستوطنين عن اخلاء قطاع غزة من الاستيطان ، واجلاء المستوطنين عنه . وقد وزع مؤخرا اعلان تتصدره صورتان : الاولى لمستوطنين وجنود اثناء عملية الاجلاء والاخلاء . والثانية عبارة عن رسم تخيلي لجرافة عملاقة تقوم بهدم قبة الصخرة المشرفة وما يجاورها من منشآت تابعة له . وهناك تعليق في اسفل الصورتين نصه : التعويض قريبا في " جبل الهيكل " ، أي المسجد الاقصى . وهنا تتمثل خطورة الربط بين الانسحاب من قطاع غزة وهدم المسجد الاقصى - لا سمح الله - لبناء الهيكل المزعوم على انقاضه .وهذه هي الاجواء المشحونة بالتوتر التي يعيشها الفلسطينيون واياديهم عل قلوبهم ، خشية ان يلحق الاذى والمكروه بثالث الحرمين الشريفين ، وخشية ابتلاع اولى القبلتين ، اضافة الى الهموم المستدامة الاخرى التي ما انفك يفرزها الاحتلال ، وعلى سبيل المثال لا الحصر هدم المنازل الفلسطينية في القدس ، والتهديد بهدم المزيد . الا ان الهم الاكبر الذي يعيشه الفلسطينيون يتمثل في لا مبالاة الانظمة العربية والاسلامية السياسية بكل هذه الاحداث الخطيرة على ساحة القدس ومقدساتها .واذا كانت هذه الانظمة السياسية لم تعد تولي قضية القدس والاقصى المبارك الاهمية التي تستحقها لاسباب باتت معروفة لكل ذي رأي ورؤيا وبصر وبصيرة ، فان السؤال المتعدد الجوانب الذي يطرح نفسه بالحاح هنا : وماذا عن ادوار منظمة المؤتمر الاسلامي ، والازهر الشريف ، وكليات الشريعة وهيئات الافتاء ، وكل المؤسسات والمنظمات الاسلامية الاخرى ذات الشأن ؟ . اليست القدس والاقصى جزءا لا يتجزأ من العقيدة والتاريخ الاسلاميين ؟ . اين هو الصوت الاسلامي الذي يفترض به ان يعلو مدافعا عن مقدسات المسلمين ؟ . وفيم الانتظار اذا كان هذا السكوت انتظارا ، والى متى ؟ .وفي ذات السياق فثمة لوم كبير يقع على الاعلامين العربي والاسلامي بكل اشكالهما المقروءة والمسموعة والمرئية . هناك اهمال وتجاهل ولا مبالاة وعدم اكتراث بموضوع القدس والاقصى . ان المتتبع لهذا الاعلام وبخاصة البرامج المرئية الفضائية ، ومقالات الرأي في الصحافة ، سوف يصدم كون القدس والاقصى لا يشكلان ادنى اهتمام لديهم ، وليسا على ما يبدو مدرجين على اجندة اهتمامات هؤلاء الكتاب الذين شغلتهم موضوعات اخرى ، او انها استحوذت على اقلامهم لسبب او لآخر. وتبقى القدس واقصاها هما فلسطينيا في الدرجة الاولى .صحيح ان القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة ، وان الدفاع عنها يقع في الدرجة الأولى على كاهل الفلسطينيين الذين بذلوا الغالي والنفيس من أرواح شهداء خيرة أبنائهم ، وما زالوا يبذلون ، وهذا شرف لهم خصهم الله به ، كونهم جغرافيا مواطني هذه الأرض المقدسة ، وأصحابها الشرعيين .إلا ان الملاحظ ان العالمين العربي والإسلامي ، والقدس الشريف بأقصاها المبارك وصخرتها المشرفة ، لم يعودا يشكلان أولوية مدرجة على أية أجندة سياسية لهما ، ولا حتى ثانوية . ان ما تقدمه الأنظمة العربية والإسلامية لا يكاد يذكر مقارنا بما تفعله الحكومات الإسرائيلية الواحدة تلو الأخرى في مجال تهويدها جغرافيا وديموغرافيا . ومثالا لا حصرا هدم منازل أصحابها التاريخيين ، أو مصادرتها ن أو احاطتها بحزام استيطاني له أول وليس له آخر .ان القدس ليست ملك الفلسطينيين وحدهم ، وكذلك الأقصى المبارك والصخرة المشرفة . انها ملك المسلمين ، فهي جزء لا يتجزأ من عقيدتهم السمحة وتاريخهم المجيد . وانطلاقا من هذه الحقيقة الثابتة فان الدفاع عنها واجب عربي وإسلامي قبل ان يكون واجبا واهتماما فلسطينيين .وكلمة اخيرة . لقد مني العرب والمسلمون في القرن العشرين المنصرم ، والقرن الحادي والعشرين الحالي بالكثير الكثير من الخسائر من سياداتهم وحرياتهم واستقلالية قراراتهم وكرامتهم وخيرات بلادهم واوزانهم السياسية والاقتصادية والثقافية جراء فرقتهم وانقسامهم وتعاديهم ، أو جريهم وراء المكاسب المادية التي سرعان ما تذوب في انهيار اسواقهم المالية . ولم يبق لهم الا عقيدتهم ومقدساتهم التي اصبحت في مرمى الاستهداف ، ويخشى لا سمح الله ان يستهينوا بها ، فتسلب منهم . والقدس والاقصى ناقوسا خطر ما زالا يقرعان ليلا نهارا لعل الآذان تسمع ، والعيون ترى ، والألباب تعي وتستوعب هذا الخطر المحدق بالعقيدة والتاريخ والتراث . وعندها يحق لنا ان نسأل : القدس والأقصى إلى أين ؟ .