حق لكل حاج ومعتمر أن يقبل رأس أحمد الشقيري!
ذهبت قناة "الرسالة" هذا العام بكأس رمضان ، هذه الكأس التي لاتُمنح لوسائل إعلامنا غير الميمونة ، والتي ولله الحمد لم نمر على إحداها ولاحتى مرور الكرام هذا الرمضان .
في غير رمضان وخلال 11 شهرا يمكننا أن نرى مايقدم أصحاب الفن والمال من مسلسلات ثقافية وغير ثقافية ، تسقى بماء واحد : حياتنا الاجتماعية القميئة المتعفنة التي تعرضها علينا المسلسلات دون أن تقدم للمشاهد الحلول الناجعة والطريقة المثلى للخلاص منها، وكالكبريت الأحمر يندر أن يخرج من بين هذا الكم مسلل هائل يهز الأمة ، ويحدث من التغيير مايستمر أعواما ويستقر في النفوس والعقول ، كما حدث في مسلسلات "صلاح الدين الايوبي " ، و " التغريبة الفلسطينية" ، و"عصي الدمع" ، وإن كان هذا الأخير لم يستحوذ على اهتمام المشاهدين كما أخويه – والثلاثة من إخراج الاستاذ المبدع حاتم علي ، وكتبها الدكتورالمبدع وليد سيف ، والقاضية دلع الرحبي، والذين شكلوا ثلاثتهم في هذه المسلسلات ثلاثيا "مجددا" بصورة استثنائية في عمق الذاكرة الجماعية في المنطقة العربية ، وصميم الأمراض الاجتماعية التي تنخر في مجتمعاتنا.
منذ ذلك الانتاج الضخم الهائل في عالم الفكر والفن والثقافة والتاريخ والمجتمع ، لم يحظ أي رمضان لاحق بما حظي به رمضاننا هذا العام في قناة الرسالة ، التي استبدلت بالمسلسلات برامج طليعية تقدمها على مدار الساعة ، أولها برنامج الأستاذ "عمرو خالد" ، والذي لم يعد لرمضان من طعم خاص إلا بسماع حصصه الرائعة التي تحيي القلوب والنفوس والعقول ، وتقدم في كل عام شيئا جديدا للأمة ، وعلى كل المستويات ، وذلك على الرغم مما يمكن أن يؤخذ عليه ، مما يمكن أن يؤخذ على كل من يتعرض للعمل الإعلامي الجماهيري ، والذي لايخرج عن كونه هنات في الأداء ، وملاحظات على المادة المقدمة والمعدة بينه وبين فريق الاعداد ، الذي بدا واضحا هذا العام أنهم بذلوا جهودا مشكورة وضخمة ، للتحضير لموضوع "نبي الله موسى" .
هذا العمل الإبداعي –ككل مايقدمه الأستاذ عمرو خالد- كان له من الأهمية هذا العام مايتجاوز الموضوع بحد ذاته ، والمتعلق بالنبي العظيم الذي استحوذت سيرته على ربع القرآن الكريم ، إلى تلك الاسقاطات الذكية جدا التي قام بها "عمرو خالد" على حياتنا المعاصرة ، والتي وعلى الرغم من إصراره الشديد في التركيز على بعضها كالظلم الأسري والتفكك الاجتماعي ، جاءت على استحياء بين يدي الواقع المرير الذي نعيشه ، خاصة في البيوت حيث يصمت المظلوم والظالم والمتفرجون ، وحيث تولد جرثومة الظلم ليحملها الإنسان العربي جنينا متوحشا ينمو بين جنبيه يستنسخ نفسه ليولد باستمرار فتملأ حياتنا أفعال الظلم وثقافته ، فلا الظالم يجد من يردعه ، ولا المظلوم يدافع عن نفسه أو يجد من ينصره ، ولا المتفرجون يشعرون بأي احراج وهم ينظرون الى هذه المأساة التي تتكرر في حياة البعض من المهد إلى اللحد ، وهم يكرسون باستمرار ودأب موقف المتفرج الساكت عن الحق سكوت الشياطين الخرس ، ونحن نلوك ونجتر دون كلل ولاملل الحديث عن حكامنا وعن الظلم السياسي الذي استحوذ على البلاد دون أن نقف من أنفسنا وقفة شرف واحدة نعي فيها أبعاد الظلم الاجتماعي الخطير الذي يعيشه الإنسان في منطقتنا المنكوبة بنا ، في البيت والشارع والمدرسة .
من مفاخر قناة الرسالة – بل الاعلام العربي- هذا الرمضان "علمتني الحياة" برنامج الدكتور "طارق السويدان" اليومي ، الذي أعده إعدادا ممتازا ، لم ينتقص منه إلا درجة ميل الشاشة التي كان يقدم من خلالها الأفكار الرئيسية لبرنامجه ، بحيث يصعب رؤية ماكتب فيها ومتابعته ، لقد جاء ذلك البرنامج كلٌ متسق متكامل من منظومة فكرية متميزة تعرض من خلال تجارب إنسان وقف حياته كلها لمشروع نهضة المنطقة، من منا لم ينشأ على أشرطة طارق السويدان في السيرة ، لقد كان طليعة في استخدام كل وسيلة حديثة ممكنة للوصول إلى عامة الناس ، وتطور الحال معه حتى وصل الى قناة الرسالة ، التي مازال أمامها وأمامه فيها الكثير الكثير ، وهي تحتاج منا الى درس وبحث ، ومن حق القائمين عليها أن نخصهم بالنقد والتمحيص الدقيقين ، فوظيفة النقد ليست الهدم والأذى والتشهير ، وشتان شتان بين من يسب ويؤذي ويهدم الأعمال على رؤوس أصحابها وبين من يشذب ويقوم ويقدم النصائح للارتقاء بالأعمال، الفرق كبير بين من يغار من العمل وبين من يغار على العمل.
لقد كان برنامج "علمتني الحياة " هذا الرمضان مدرسة فكرية روحية تربوية تقييمية ، مدرسة لم ينقصها إلا المشاركات الشبابية الفعالة ، حيث كانت قليلة جدا بالمقارنة مع وقت البرنامج ، ولم تكن مشاركات حية مدروسة منظمة .، ولعلي كنت أتمناها مشاركات بناءة على طريقة "العصف الفكري " الذي انتهجته خلال خمسة أعوام مع تجمع للشباب المسلم في مدريد ، بحيث تكون مشاركات الشباب في الندوات الثقافية ممنهجة مدروسة محضرة ، فيأتي كل شاب الى الندوة وقد حضر بالضبط محورا عليه أن يتكلم فيه مدة ثلاثة دقائق مستحضرا معه المراجع التي استقى منها معلوماته سواء الكتب مشارا إلى الصفحات التي تخص الموضوع فيها ، أو إلى الصفحات الالكترونية التي يجب عليه أن يأتي بها مطبوعة وملونة فيها السطور التي أخذ منها المعلومات أو الاحصائيات التي استند إليها في إعداد الفكرة التي يقدمها . وعلى الرغم من ذلك فإن الدكتور السويدان كان في طليعة من أشرك الشباب في الحديث في البرامج الاسلامية التي يعدها ، ولم يستضيفهم تلك الاستضافات "الموميائية" التي نراها في برامج للشباب ليس للشباب منها إلا الموات هماً وسأماً وصمتاً بينما ينبري أحدهم بالحديث ساعة ونيف دون كلل ولاملل!! ، كما أن هناك بعض المآخذ الهامة على الدكتور سويدان في طريقة ربطه الفكر المطروح في البرنامج بتجاربه الشخصية ، وفي إغفال بعض المراجع الهامة جدا التي قدمت في البرنامج كاسم صاحب البحث العددي في القرآن الكريم في الحلقة 27.
وأخيرا وليس آخرا ، فإنه يحق لقناة الرسالة أن تعتز بمفخرتها " أحمد الشقيري" الشاب الداعية المبدع المتألق ، والذي وعلى نهج سابقيه يسير من تطوير وإتقان إلى تطوير وإتقان باذن الله ، محدثا ثورة حقيقية في الإعلام الاسلامي الحديث – ومثله الدكتور نبيل العوضي ، والدكتورعلي العمري الداعية الشاب ، في "مذكرات سائح" ، ولي عليه كلام ووقفات- هذا الاعلام الاسلامي الذي لم يعد يستحمل جلسات الوعظ الدائبة المستمرة ، وصار بحاجة ماسة الى مثل هذه البرامج التي تعتمد منهجية المقارنة ، والبحث ، واستثارة الفكر ، لقد جاءت "خواطر رمضان هذا العام من اليابان" لتكون قفزة هائلة في أساليب الدعوة ، دعوة الأمة إلى النهضة ، إلى التفكير ، إلى الانزعاج ، إلى أن تتقلقل ، إلى أن تقلق ، إلى أن تتحرك ولو قليلا !! ، لابأس من انزعاج البعض ، لابأس من امتعاض البعض الآخر ، لابأس من استنفار أجهزة مخابراتنا العتيدة الساهرة على دوام الحال ، والتي –مسكينة – لاتفهم أنه من المحال ! ، وأن مشكلتنا ليست في حكامنا وحدهم ، ولكنها فينا أنفسنا !.
إن معضلة المنطقة العربية ودون أدنى شك هي معضلة تربية الإنسان ، من هناك أوتينا ، ومن هناك ستمر كل الطرق نحو الخلاص .
حق على كل حاج ومعتمر أن يقبل رأس "أحمد الشقيري" الذي تكلم عن وجع مزمن يعانيه كل حاج ومعتمر في صمت وصبر وألم ، حيث لاحمامات ، ولامكان للوضوء ، ولاللتطهر ، اللهم إلا لمن استطاع أن ينزل في "أبراج مكة" ، الفنادق الراقية الخاصة بأصحاب الملايين!! ، أما بقية البشر المساكين ، فاسألوني عن رحلة من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، استمرت 14 ساعة بسبب باص إحدى الشركات الدمشقية التي ضحكت علينا – ونحن في اسبانيا!!- حتى استنقذنا السعوديون بباص يمكن لبني البشر ركوبه!! ، إحدى عشرة ساعة من المعاناة الرهيبة بسبب انعدام الأمن في الحرم الآمن !!، و..لم نمر على محطة بنزين ، ولامسجد في الطريق ، ولامحل لبيع الطعام ولاصيدلية مناوبة إلا ووجدناها قد احتوت على حمامات غير منتهية البناء ، الماء فيها مقطوع ، والقاذورات سيلٌ يطفو ، ولاتوجد أية وسيلة ليتطهر الناس ويتوضؤوا ، لقد تيممت في رحلتي تلك نحو مكة بقدر ماتيمتته في كل حياتي سفرا ومرضا وجبائر !، وعرفت أخيرا لماذا تصرّ مناهج الفقه في بلادنا على تدريس التطهر والاستنجاء بالأحجار وورق الشجر !! ولم يتجرأ "جبان" منا أن يتفوه ببنت شفة مخافة أن نُحرم من زيارة بيت الله الحرام ، لكن شجاعة الشقيري بلَغت أن بلّغ هذه الأمانة بكل ثقة بالله وبنفسه وبأن تصل الرسالة لبعض المسؤولين في بلده لعلهم يغيرون هذه الحال المأسوية التي يعيشها ملايين الحجاج والمعتمرين كل عام ، فضلا عن المواطنين .
شكرا لقناة الرسالة وشكرا لرجالها وبعض نسائها ، لقد جعلت رمضاننا هذا العام مختلفا ، فكرا وثقافة وتسلية وبسمات تخللتها كثيرا من الدموع حزنا على أوضاعنا المخزية تارة ، وفرحا بأن التغيير قادم لامحالة على أيدي هؤلاء الشباب من الطليعة المتميزة التي تترك بصماتها على من ألقى السمع وانصرف عن باب الحارة إلى بوابات الغدّ الآت حتما لالبس فيه.