كان ذلك عام 1981 ..بعد خمسة أشهر من قدومي الى اسبانيا ، سمعت شريطا مسجلا لمحمد قطب أحد أكبر الكتاب والمفكرين الاسلاميين في تلك الحقبة ، جاء فيه: "إن المسلمين اليوم يعيشون في أوربة ويساعدون في بنائها ، وهم جزء من خطة استقدام مدروس لليد العاملة الرخيصة ، ولذلك فهم "مسكوت" عنهم حاليا، وعما قريب عندما تفرغ أوربة من المهمة التي استقدمتهم من أجلها ، وعندما يصبح لهم وجود جماعي ومساجد يحافظون من خلالها على هوياتهم فإن أوربة لن تستمر في السكوت على ذلك ".
قبل أن أبدأ ،أود أن أشكر الأستاذين الكاتبين " العجمي الوريمي" و "مراد زروق" على مقاليهما اللذين نشرتهما "العرب" يوم الثلاثاء الماضي ، حيث قالا كل ماكنت أود قوله في هذه القضية.
بعد أن حكم الاشتراكيون اسبانيا ثلاثة عشر عاما ، شهدت فيها البلاد تقدما هائلا ليس من ناحية السياسات الأوربية والتربوية والاجتماعية وازدهار الصناعة والاقتصاد فحسب، بل من الناحية الثقافية الفكرية الانسانية كذلك ، حيث عاشت اسبانيا فترة من الديمقراطية والتعددية شبه الحقيقية ، كانت فيها وسائل الإعلام الوسيلة الرئيسية لبث هذه السياسات وتثبيتها في المجتمع وسلوك الانسان ، لكن الأمر لم يستمر بهذا الشكل ، فلقد جاء "حزب الشعب" الذي يقول عن نفسه أنه محافظ ، جاء إلى الحكم بعد عملية ارهابية قامت بها "إيتا" ضد رئيس الحزب ، خرج منها سالما ومباشرة ليستقر في كرسي الحكم مدة ثمانية أعوام ، حيث اقتُلع منه اقتلاعا بسبب كذب حكومته على الشعب فيما يتعلق بتفجيرات مدريد الارهابية !، ماذا حدث في اسبانيا خلال هذه الأعوام الثمانية.. واستمر حتى أيامنا هذه؟! ، ولماذا أكتب عن هذا ؟ ، وماعلاقة هذا الأمر بمآذن سويسرا ؟!.
علاقة وثيقة تربط بين الاجابة على هذه الأسئلة وبين مايحدث اليوم في أوربة بما يتعلق بالوجود الاسلامي ، حزب الشعب هذا ، الذي تنتشر فروعه في جميع الدول الأوربية بطبعات مختلفة ، ويسيطر على نصف البرلمان الأوربي في بروكسل ، قام باستئصال الطبقة الثقافية الاسبانية عن طريق تغييبها عن وسائل الإعلام، فاختفت أسماء كانت ذات وزن هائل في الضمير الاسباني الجماعي وفي الحياة الثقافية والفكرية ، كتاب ومفكرون وفلاسفة و فنانون وصحفيون وإعلاميون ، هؤلاء الذي صنعوا بجهودهم الرأي العام الاسباني فيم بعد حكم الجنرال فرانكو، اختفت أسماؤهم من الإعلام ، ومعهم قيادات كان لها ثقلها الكبير في النفوس من خلال إطلالاتها الدائمة في البرامج الثقافية والحوارية الراقية التي كان يعرفها الإعلام الاسباني ، اختفت هذه الشريحة وطوى ذكرها النسيان ، إلا من استطاع منهم الثبات والمقاومة المضنية ليبقي اسمه في الساحة ،وقام حزب الشعب هذا بشراء أكبر عدد ممكن من القنوات الإعلامية الاسبانية ، ليحولها إلى ساحات لبرامج مايسمى هنا "القمامة" ، أكثر من خمسة قنوات تلفزيونية رئيسية في اسبانيا كانت تعرض وخلال ثمانية أعوام ويوميا برامج "الزبالة" المستنسخة من برامج أمريكية أو أوربية : "الأخ الأكبر" ، "أكاديمية الفن والرقص" ، " هل تريد أن تصبح مشهورا" ، وبرامج الفضائح :أحدهم يبحث عن أمه التي تركته في ملجأ للأيتام قبل خمسين عاما ، ، أمٌّ تريد استرجاع ابنها الذي تحول الى راقصة !، واحد يريد أن يعلن للملأ عن حبه لجارته وخطبته لها أمام الملايين ، فتأتي هذه وترفضه ، فيقوم بقتلها بعد يومين !!، والبرنامج مستمر والناس تصفق وكأنه لم يحدث شيء !! ، وقد تكررت جرائم القتل المتعلقة بهذه البرامج في أكثر من قناة وأكثر من مرة ، والملايين مازالت تصفق مبتهجة في حواراتها اليومية حول هذا الأحداث العظيمة!! ، كلما أشعلت جهاز التلفزيون في أية ساعة من ليل أو نهار في اسبانيا وجدت هذا الوضع المقرف ، مقابل برامج حوارية سياسية ثابتة في ساعات المشاهدة القصوى ، استُقدم للحوار فيها مجموعة من المرتزقة غير المختصين ، من الصحفيين والكتاب القادرين على النباح والزعيق وتهييج الرأي العام بكل وسيلة ممكنة ،معظمهم من اليهود أو من مناصري اليهود أو ممن يعملون مباشرة مع السفارة الاسرائيلية ، أو ممن كانوا في اسرائيل بعد عقود عمل شملت حتى أصحاب برامج الطبخ في التلفزيون الاسباني!! .
أمران أساسيان كانا يشغلان كل حصص هذه البرامج الحوارية : الأول تعظيم وتمجيد حزب الشعب الحاكم وماحققه للأمة من مكاسب ، والثاني شتيمة وإهانة الاسلام والمسلمين وبكل طريقة ممكنة !!. وبعد أن سقط حزب الشعب وعاد الحكم إلى الاشتراكيين ، بقيت اسبانيا رهينة هذه القنوات ، بعد أن فقدت الطبقة المثقفة المختارة القديمة التي غيب الموت بعض أفرادها ، وغيب التضييع والاهمال والإحباط من تبقى منهم ، وتبدلت سياسات هذه البرامج الحوارية فأصبح الهدفين الرئيسيين لها : الأول شتيمة وتحقير الحكومة الحالية ورئيسها ، والثاني سباب وإهانة الاسلام والمسلمين وبكل طريقة ممكنة !!.
أربعة عشر عاما .. ويوميا ..وعلى مدار الساعة ، وفي جميع وسائل الإعلام الاسبانية ، يسمع الناس أن الاسلام دين الارهاب ، وأن المهاجرين المسلمين هم في مقدمة اللصوص ومنتهكي حقوق الانسان والحيوان والنبات ، وأن نسبة السجناء منهم والأميين تفوق كل نسبة على وجه الأرض ، وأن الدول الاسلامية مجتمعة –هكذا- تمنع منعا باتا أتباع الرسالات الالهية من مزاولة شعائر دينهم وبناء كنائسهم ، وأن النصارى واليهود مضطهدون في بلاد الاسلام ، وأن المرأة مهانة ، وأن كل نساء المسلمين في جميع أرجاء المعمورة –يعني 650.000000 امرأة في العالم ، يلتزمن الحجاب مرغمات مقهورات ، مافيهن امرأة واحدة إلا وتلتزمه رغم أنفها!! ، وأن كل نساء المسلمين في العالم – أي 650.000000امرأة – لو خُيرن وتركت لهن الحرية لغيرن دينهن بسبب ظلم الاسلام لهن ، وأن هذا الدين يحوي على نصوص تدعو متبعيه إلى الكذب والغش والخداع وسرقة الآخرين وقتلهم وخيانتهم ، وأن الاسلام دين السخافات والخرافات والكسل والقذارة وتضييع الأوقات ، وأن كل المهاجرين المسلمين الموجودين في أوربة اليوم ، نزحوا إليها من صحاريهم المقفرة ، بل كل مسلمي أوربة – الذين لايمكن أن يكونوا أقل من خمسة وثلاثين مليون إنسان على أسوأ التقديرات- كلهم أشرار كفار ، ليسوا أهلا للثقة- بما فيهم المسلمون الأوربيون أنفسهم- ، لأن دينهم يعلمهم كيف يعضون اليد التي تحسن إليهم ، كلهم قتلة !، وانظروا مافعلوا في الحادي عشر من آذار بتفجير قطارات مدريد !، - ولقد اكتَشفتُ منذ أيام قناة "ديجيتال" خاصة وفقط بإحياء ذكرى ضحايا هذه التفجيرات على مدار الساعة ، مديرها ومقدم برامجها هو الكاتب الصحفي "ثيسار بيدال" مستشار السفير الاسرائيلي في مدريد!!- .
المواطن الاسباني ، ومثله السويسري ، ومثله كل مواطن أوربي ، يُحقنون ويوميا وخلال 24 ساعة بهذه الأفكار ، فإن خرجت من بيتك حاصرك هذا الكلام في جميع البرامج الإذاعية وبنفس الوتيرة ، فإذا كنت قارئا اضطررت لشراء خمسة صحف اسبانية يوميا لتستطيع أن تأخذ فكرة واحدة صحيحة على الأقل عما يجري في العراق أو أفغانستان!!!.
من قال أن مايجري في العراق أو أفغانستان هو مقاومة لغزو استعماري همجي ؟! من هو هذا الأحمق الذي يمكنه أن يتحدث عن هذه القضية بهذه الكلمات؟؟! ، إن جنود الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية الأبطال الميامين ، الذين يتمتعون بصفات إنسانية خارقة ، آباء طيبون، وأزواج مثاليون لزوجات شابات يصطففن على الموانيء مع أطفالهن وفي المطارات لاستقبال الأزواج وتوديعهم كلما ذهبوا وجاؤوا من أرض المعركة ، معركة الحق مع الباطل ، معركة حقوق الانسان ضد المتخلفين الذين يدوسون هذه الحقوق، فيقطعون أيادي المساكين ويرجمون النساء الضعيفات على مرأى ومسمع من الأطفال ، متوحشون يقطعون الرؤوس ، ويستخدمون النساء والقاصرات كإماء لقضاء شهواتهم الجنسية ، لاحقوق لديهم للطفل ولاللمرأة ولاللانسان ولاللحيوان!.
كل تفجير في أفغانستان والعراق هو "عملية ارهابية" ضد القوات المسلحة التي ذهبت إلى هذين البلدين لتقوم بمهمات "حفظ السلام "، مهمات سلامية إنسانية بحتة! ، فهم يظهرون في نشرات الأخبار وكأنهم ملائكة مطهرون ، يبنون الجسور والمستشفيات ، ويوزعون على الأطفال العراة الحفاة التشوكولا ، يعلق على هذه المشاهد اليومية مدير تحرير احدى القنوات الاخبارية " هنريكية روخاس" والذي كان يعمل مراسلا في أفغانستان بقوله : (لو يعلم الشعب الاسباني مدى وحشية ولا أخلاقية "طالبان" لقدّر الدور الانساني الهائل للقوات الاسبانية في تحرير هذه الشعوب من جلاديها)!.
فيا قومنا في بلادنا ... لاتلوموا الشعب السويسري "المتمدن" أن أدلى بصوت الخوف والهلع في موضوع مآذن سويسرا الأربع!! ، فهو لم يفعل إلا أن عكس ماتغذيه به ساعة فساعة أجهزة إعلامٍ يُرّكع الشعوب ويسوسها بالخوف والكراهية التي تشل العقول والضمائر، فأذيال المحافظين الجدد الأمريكيين في أوربة من "الشعبويين المحافظين" من أعداء الإنسانية ، يسوسون بسيطرتهم على وسائل الإعلام الرأي العام في أوربا كما تُساس الأنعام ،ويتلاعبون به كما تلعب شعوبنا الشاخرة بورق اللعب لقتل الوقت والقدرة على النمو والانجاز والتغيير ، والمسلمون في الغرب يعيشون - في عجز مؤلم عن الفعل الايجابي - أقدارهم بانتظار "هولوكاوستهم" المقبل ، الذي مافتئنا نُنذر ونُحذر منه ، أو أن تستيقظ أمتهم فتنظف أفنيتها مما ترتب عن بعدها عن أسس حضارتها من كوارث، وبانتظار أن يصحو الضمير الأوربي الذي يُراد له أن يبقى في دياجير ظلمات محاكم التفتيش ، التي طالما دارت ومازالت تدور على الحقد الأعمى والبغضاء والاستكبار وعدم التسامح والسير في الاتجاه المعاكس للتاريخ.