لعل من أهم الأعمال المطلوبة التي قامت بها "قناة الجزيرة" خلال الأعوام الثلاثة عشر من عمرها القصير الحافل ، هو ربط جناحي المنطقة العربية ببعضهما البعض عن طريق الكلمة والصورة والتوثيق والمراسلة وتقديم العناصر الإنسانية المغاربية للمشاهد في المنطقة العربية ، والذي لم يعتد إلا على الصوت المشارقي وعناصره البشرية المحدودة الآتية بشكل عام من لبنان ومن بعض مناطق سورية وفلسطين ، فضلا عن استئثار المصريين بالسيطرة على الإعلام الناطق بالعربية مدة خمسين عاما على الأقل، الشيء الذي لايتناسب اطلاقا مع حجم وفاعلية تأثيرهم في الجزيرة اليوم ضمن نخبة الإعلاميين الذين يمثلون مختلف الدول العربية في هذه القناة .
في اجتماع خاص ضمني مع أميرة سعودية في مدريد بدعوة من مدير االمركز الثقافي الاسلامي الأسبق الدكتور ابراهيم الزيد ، كنت أحدثها عن تلك المدرسة الهائلة التي أنشأها رجل سعودي في طنجة "لاأتذكر اسمه"، وشرحت لها عجبي وإعجابي الشديدين من دقة وعيه وتفكيره الثاقب في مثل هذا الأمر ، ففاجأتني الأميرة بابتسامة وادعة كريمة قائلة: إن هذا الرجل هو أخي الملك فهد !! ، لم أعتد كثيرا على ذكر مناقب حكامنا ، وكثيرا ماأصاب بالزهايمر لدى تذكر أسمائهم!! ، ولكنني ومنذ علمت بأمر تلك المدرسة الجامعية لاأذكر الرجل إلا وترحمت عليه.
يسرني العثور على هذه الخيوط الناعمة التي تربط الأشياء التي يصعب أحيانا فهمها وربطها !!، هذا الانجاز الذي قامت وتقوم به قناة الجزيرة ، أتى في سياق عمل رائد بكل معنى كلمة الريادة، لاشيء يأتي من فراغ !! إنها سلاسل متواصلة من جهود كثيرة مبعثرة ، فيوم علمت بهذه المدرسة الجامعية العليا رفيعة المستوى ، عرفت أن من قام بإنشائها في جامعة عبد المالك السعدي في طنجة ، لم يفعل ذلك جزافا ، وأن هذا العمل هو من الخطورة والأهمية بمكان مرموق ثقافيا وسياسيا. مدرسة جامعية عليا للترجمة وبحوثها في طنجة !، تعني الخطوة العملية الفعلية الأولى لإعادة ربط جناح "الأمة " الغربي بمشرقها من جديد ، وتعني إعادة دمج العنصر المغاربي في لحمة المعرفة الإنسانية في المنطقة العربية ، وتعني تذليل الصعاب بين أبناء المغرب العربي وإخوانهم في المشرق العربي للتواصل بعد طول نأي غير مفهوم ألبتة ، وتعني الاستفادة القصوى من العقول المغاربية الجبارة المهاجرة في أقاصي الأرض تبحث عن فرص للعمل واستثمار المعرفة والخبرة ، وتعني وضع حد لاستئثار بعض الجماعات والمجموعات بقضية الترجمة بالغة الخطورة في المنطقة العربية ، لتخرج الترجمة من كونها مهنة البعض فتصبح ضرورة حيوية من ضرورات النهضة في ظل الصحوة.
في مدريد يمكنك أن تلتقي بعض رجال ونساء مدرسة الترجمة في طنجة ، ولكن يمكنك وبصورة واضحة أن ترى وتسمع خريجوا تلك المدرسة في مختلف وسائل الإعلام الناطقة بالعربية في طول العالم وعرضه.
قناة الجزيرة الفضائية الاخبارية ، قدمت لنا شريحة ممتازة من رجال ونساء المغرب العربي بجزائره وتونسه ومغربه الأقصى ، قطر التقطت ذلك الخيط فجعلت المواطن في سورية والسعودية والعراق يفهم ويَعي ويحترم مايقوله "محمد كريشان" ، و"ناصر عبد الصمد" ، و"خديجة بن قنة" ، و " فيروز الزياني " ، و" وهيبة بو حلايس" ، ضمن آخرين ، كانوا في مجملهم صوت المغرب في ضمير المشرق ، وكانوا رسالة مفتوحة راقية إلى كل أولئك الذين انغلقوا على أنفسهم في نظرات محلية عنصرية بائسة ، ولايمكن هنا أن ننسى الدور الكبير الذي تلعبه كذلك الصحافة القطرية وليس قناة الجزيرة فحسب ، في نفس الاتجاه ، وليس إلا أن ترى أسماء الكتاب والمراسلين ورؤساء تحرير بعض الأقسام في صحيفة العرب القطرية حتى تلمس هذا الاتجاه العام في الإصرار على نهج ربط مغرب الأمة بمشرقها.
أحيانا .. وبعد إقامتي في اسبانيا مدة ثلاثين عاما أكاد أجزم أننا ، نحن الذين نسمي أنفسنا "عربا" أشد عنصرية ونازية من هتلر نفسه ، وهذا واقع تعيشه معظم الجاليات الاسلامية و"العربية " منها بشكل خاص في بلاد المهجر ، ويتجلى ذلك وبحدة في علاقة المشارقة والمغاربة الآتين جميعهم من منطقة جغرافية واحدة ، ويحملون في قلوبهم دينا واحدا وهما واحدا وحبا واحدا ، اختلاف اللهجات ، وبعد الشقة الإعلامي والسياسي جعل الناس تقف من بعضها مواقف مخزية ، لايستطيع معظم الناس أن يرتقوا فوق حدودهم الثقافية المحلية ، لينفتحوا على عناصر ثقافية أخرى ، وليكون لهم آفاق غير محدودة في التفكير وتصور الأشياء ، ورسم صورة حقيقة عن الآخر في أذهانهم ، وهذه هي المهمة الضخمة العظيمة حقا التي قامت بها قناة الجزيرة ، والتي كانت قد سبقتها فيها بعض الإذاعات الأجنبية الناطقة بالعربية كإذاعة دوتشيه بيليه الألمانية ، وبعض الإذعات العربية كإذاعة الكويت في حصصها السياسية وبرامجها الحوارية ، إلا أن قناة الجزيرة وهي قناة تلفازية أي أن أعداد متابعيها تبلغ الملايين ، لم تكتف بهذه الخطوة الهائلة في استخدام العنصر الإنساني المغاربي على واجهة القناة فحسب ، بل لقد ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما خصصت حصة "الحصاد المغاربي" الذي يستضيف النخب المغاربية من أساتذة الجامعات والمختصين والكتاب والمفكرين ، والذين يتحدثون جميعا اللغة العربية الفصحى التي يفهمها كل ناطق بالعربية ، بل ولقد جعلت الجزيرة لهذا الحصاد إشهارا إعلاميا من التميز والجمال والدقة بمكان يجعل المرء يتابعه لذاته ، حتى لو لم يستطع متابعة هذا الحصاد الذي لايدري أحد لماذا دخلت "اسبانيا" فيه وكأنها واحدة من دول المغرب!! ، وبحيث صارت أخبار اسبانيا ترد في هذا الحصاد بشكل شبه يومي ، اقتطعت قناة الجزيرة اسبانيا من الاتحاد الأوربي وجعلتها بجرة "ريبورتاج" جزءا من مغرب الأمة !! ، وفي هذا من الظلم والإجحاف بحق اسبانيا مايماثله من الجهل وعدم الإحاطة بالأمور فيم يتعلق بالمغرب العربي ، واذا كانت الجزيرة مصرة على هذا النهج ، فإن الانصاف يستدعي أن تكون فرنسا هي الملحقة بالحصاد المغربي وليس اسبانيا !، على أن تلحق دول غربية أخرى ، كل منها بالدولة العربية التي تسير في ركبها وتتكلم لغتها وتأتمر بأمرها!!.
لقد قامت قناة الجزيرة بدور كبير كقناة تلفزيونية ناطقة باسم كل مواطني المنطقة العربية في التقريب مابين المشارقة والمغاربة فيها ، في وقت مازالت فيه معظم القنوات الفضائية المغربية نفسها تصر إصرارا مقصودا بذاته على استخدام اللهجة المغربية المحلية حتى في بعض برامجها الاخبارية ، وبشكل يستحيل معه على المشاهد في المنطقة العربية متابعة هذه القنوات أو فهم شيء مما يدور فيها ، وحتى حصص الطبخ المغربي !، لايمكن لأي امرأة في طول المنطقة الناطقة بالعربية وعرضها أن تتابع برنامجا عن الطبخ المغربي باللهجة المغربية المبالغة في المحلية!! ، وكأن هناك خطة "علنية" – وحاشى أن تكون سريّة!- ثابتة لترسيخ هذه اللهجة بهذه الصورة في أذهان الأجيال ، ولتكون أشد من جدار الفصل العنصري الاسرائيلي في منع جناحي الأمة من التواصل مشرقها مع مغربها ، ناهيك عن البرامج والحصص الاخبارية والحوارية والأفلام العالمية التي لاتنطق إلا بالفرنسية ، في ترسيخ متعمد للغة الفرنسية في ثقافة ووجود مغرب المنطقة العربية .
في حديثي مع جارتي المهاجرة من منطقة قريبة من مدينة حلب السورية ، أضطر أحيانا وأنا جارتها السورية الدمشقية أن أطلب إليها أن تعيد كلامها خمسة مرات لأنني لاأدري هل أصبت بالصمم أم أن هذه اللهجة المحلية تستعصي على فهمي!! ، ولكن القنوات التلفازية السورية لاتنظق بهذه اللهجات النائية ولاتحييها ولاتُحَيّيها!، مما ينمي لدى الجميع القدرة على التواصل بلغة مفصحة فهماً على الأقل – اللهم إلا مااتصل بباب الحارة الذي أعادنا في مجال تفصيح لهجاتنا السورية ستين عاما نحو الخلف!!! - ، ترك اللهجات المحلية لتصبح هي الأصل في لغتنا الإعلامية هو كارثة ، استطاعت الجزيرة أن تتغلب عليها بشكل ناجح .
من منا يمكنه أن يدعي أنه لايفهم مايقوله مراسلوا الجزيرة من المغرب العربي ، وهم يرسمون لنا بآلة التصوير ومكبر الصوت لوحات رائعة عن مغربنا عبر قناة الجزيرة ، موطن إخوان لنا لاتفصلهم عنا إلا قنواتهم الفضائية ، وبعض الحدود المرسومة بمسطرة مستقيمة تحرسها دبابات يبدو –وأقول يبدو – أنها تسيطر على الموقف!.
لقد قدمت الجزيرة خدمة جلى للغة العربية بثباتها على موقفها من استعمالها بإصرار في شتى حصصها الإعلامية ، كما قدمت عملا يمكننا أن نسميه بالجبار وذلك عن طريق طرح الفكر المغاربي ووجهة النظر المغاربية ، وتقديم العنصر الإنساني المغاربي في ساحة بالغة الأهمية كقناة الجزيرة الفضائية التي يتابعها الناس على اختلاف مشاربهم في مشرق "الأمة" ومغربها.
" معكم إقبال إلهامي ..من المغرب " .. معكم صوت آت من المغرب لايختلف في شيء عن أصواتكم في المشرق ، معكم هذا الصوت الفريد الذي يقول لكم في كل نبرة تحترق شعورا بالمسؤولية بينما تؤدي صاحبته مهمة فريدة : هذه بلادنا من الشام إلى تطوان ، بلاد واحدة تجمعها لغة واحدة ، وشعور واحد ، وألمٌ واحد .
-يتبع-