رغم أن الهدف الرئيس من التهجين هو استيلاد نوع جديد أكثر جودة، إلا أننا ما فتئنا نقابل كل هجين بالظلم والجفاء والريبة، ابتداء بالبغال الكادحة، ومرورا بالكيوي الذهبي اللذيذ (المهجن من الكيوي الاعتيادي والمانجا)، وانتهاء بالتاء المربوطة التي توّلدت من الهاء والتاء المفتوحة. وحديثي اليوم سيكون عن التاء المربوطة، لعل عقدتها تنحل!
وعلي أن أشير هنا أني لا أكتب هذا المقالة لأني منزعجة من كتابة اسمي في الأوراق الرسمية "حياه" (وهو فعل يعنى وجَّهَ إليه التحية إذا وضعتم شدّة على الياء!) بدلا من "حياة"، بل لأن القضية أكبر من ذلك وأخطر وأمر. فعندما تسمع بأم أذنيك مذيعا عربيا يقول "ميات البحر" بدلا من "مياه البحر"، خالطا بين التاء المربوطة والهاء، تعرف أن ثمة مشكلة ليس فقط في الإملاء، بل أنها امتدت إلى أن وصلت إلى الألسن. وعندما تجد أن أحد أشهر أبيات أبي الطيب المتنبي صار له معنيان مختلفان حين تقرأه تارة بالتاء المربوطة وتارة بالهاء، تعرف أن نقطتي التاء المربوطة أكبر من مجرّد نقطتين تافهتين تستخدمان لأغراض الزينة.
تأملوا بيت المتنبي الشهير:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعله لا يظلم
ومعنى البيت المكتوب هو أنك إذا وجدت ذا عفة، فلعل هذا راجع لكونه لا يظلم وهو أمر نادر. الآن ضع نقطتين على "فلعله" ليصبح العجز "فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم" وسيتحول المعنى إلى أن ذا العفة لا يظلم بسبب أنه يعاني من علة! والله وحده أعلم بقصد المتنبي.
معروف في أشجار الأنساب اللغوية أنّ التاء المربوطة مزيج من التاء المفتوحة والهاء، فجاءت هجينا في الشكل في والنطق، فهي لها شكل الهاء، لكنها ورثت النقطتين عن التاء المفتوحة. أما نطقها فقد حيّر علماء الجينات اللغوية، لكنهم تمكنوا من إيجاد قاعدة سهلة للتفرقة بين الحروف الثلاث وهذه خدمة جليلة من شأنها تطهير الأنساب وحفظ الألقاب.
1. فالهاء تنطق هاء على كل أحوالها عند الوقوف أو عند إكمال الكلام (مثال: اتجاه، وجه، انتبه).
2. أما التاء المفتوحة فأيضا –بارك الله فيها- ثابتة على نطق واحد في جميع أحوالها (مثال: استثمارات، موت، ذهبت).
3. أما التاء المربوطة، ونظرا لطبيعتها المهجّنة- فحالها غريب عجيب، فهي تنطق هاء عن الوقوف عليها، وتاء حين إكمال الكلام، وإذا شككت في أمر كلمة مختومة بها فما عليك إلا أن تجرب نطقها في كلتا الحالتين لتستبين أهي تاء مربوطة فعلا أم شيء آخر.
وأظن أن بعضكم قد قرأ بعض البلايا المضحكة مثل أن يكتب أحدهم "صوة وصوره" بدلا من "صوت وصورة"، وهذا طبعا يدل على مدى جودة نظمنا التعليمية التي سبقت عصرها بسنين ضوئية في مقدرتها على جعل الناس يكتبون أشياء خاطئة وشنيعة وفي الوقت ذاته تجعل الناس ينفجرون ضحكا منها، أليست هذه مهارة عزيزة على أي حال؟ لكن وللأسف، الأمر لا يكون مضحكا حين يغيّر الخطأ اللغوي المعنى في خبر مثلا أو في معلومة مهمة، وإليكم هذه الأمثلة وهي جميعا من بنات أفكاري، وآمل ألا يأتي اليوم الذي نفقد فيه حس التفرقة بين التاء المربوطة والهاء والتاء إلى هذا الحد، آمل وأدعو.
- مثلا تخيل خبرا يقول أن فلان توفي "وكانت سنه 1999"! فأنت أمام خيارين، إما أن تصدق أن فلانا توفي عن 1999 عاما -تبارك الرحمن-، أو أن تقر أن وفاته كانت سنة 1999، وأن المحرر الذي نسي النقطتين يعمل أصلا في صفحة التسالي و مسؤول تحديدا عن الكلمات المتقاطعة وبالتالي من المتوقع منه أن يترك بعض الأمور غير المكتملة للقارئ "ليسلي صيامه" بإكمالها!
- وتخيّل أيضا كتابا عنوانه "عشّاق الكرة" يتحدّث عن محبي كرة القدم، تخيل لو سقطت النقطتان وصار عنوانه "عشّاق الكره" أي عشاق الكراهية! أظن أن حكم هذا الخطأ يتعدى الكراهة ويصل إلى حد التحريم وفقا لكل المذاهب الفقهية النحوية.
- وتخيل عنوانا يقول "فكّ فلان عقدة مع الشركة" فنراك استبشرت بأن ثمة عقدة انفكت، ولكن أملك سيخيب حين تعلم أن العنوان الأصلي هو "فلا فكّ عقده مع الشركة" أي فسخ العقد معهم!
- واسمح لخيالك أن يشطح قليلا إلى عالم الإجرام وقل معي "لا نريد قتلة" وهذا أمر سليم فما من مجتمع يرحب بالقتلة السفاحين. لكن لو سقطت النقطتان -سهوا أو جهلا- تصير الجملة "لا نريد قتله"، ويكون عليك أن تحدد بالضبط من هذا الذي لا تريد أن تقتله؟ وهل هناك أحد آخر تريد له أن يُقتل؟ وأين كنت بالضبط مساء أمس بين الساعة الثامنة والعاشرة ليلا؟ وهل لديك أقوال أخرى؟!
- "رواه البخاري" جملة تكتب تحت الحديث لتدل على أن البخاري هو الراوي، لكن بعض الكرماء يصرون على تحلية الجملة بنقطتين فتصير "رواة البخاري" أي الأشخاص الذي يروون عن البخاري، ونكون هنا أمام تحدٍ وهو البحث عن بقية الجملة، فـ"رواة البخاري" مبتدأ، فأين الخبر؟ هل غادر في رحلة استكشافية مع "خبر كان" مثلا؟
- "سائق مسرع تسبب في قتل مواطنة" تعني أن مواطنة ماتت بسببه، أما إذا أزيلت النقطتان وصارت الجملة "تسبب في قتل مواطنه"، فإن هذا السائق يكون قد قتل رجلا من بلده. وسبحان من أودع كل هذا في نقطتين.
- ولو قرأت عبارة مثل "جاء الإسلام ليساوي بين العبد وسيدة"، فإن حتما ستتساءل من هي هذه السيدة المجهولة التي جاء الإسلام ليخصها وحدها بهذا الشرف، ويساوي بين العبد وبينها!
- وحينما يقول أحدهم عن صديقه أن "مُنى أمة" بدلا من "مُنى أمه" فهو حوّلها من والدة زميله إلى أَمَة مملوكة! وإذا أحسنا النية ربما كان يقصد تحويلها إلى اُمة (بضم الهمزة)، أي أنها تعادل أمة كاملة كما كان سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ {إن إبراهيم كان أمة ...}، وهنا فقط يجوز لنا أن نغفر له هذا الخطأ.
- أما عبارة "خدمه خدمه العمر"، فتكرار الفعل فيها ليس للتوكيد والتشديد، بل أصلها "خدمه خدمةَ العمر" وكالعادة سقطت النقطتان تحت دعاوي ترشيد الإنفاق والتقشف اللغوي!
- وتخيل أن أحدا قال "في التبت وحده هذا المُناخ"، فأتى أحد الكرماء وأضاف نقطتين مجانيتين فصارت العبارة "في التبت وحدة هذا المُناخ"، أي أن وِحْدَة المناخ تتحقق في إقليم التبت!
- وتخيل أن هناك رجل لطيف أعطى ابنه "عملة" ربما تكون أثرية مثلا، وإذا ضاعت النقطتان وصارت الكلمة "عمله" يكون الأب في هذه الحالة أعطى الابن وظيفة وعملا. وعلي أن أعترف أن هذه من الحالات المفيدة التي تسقطت فيها النقطتان.
- "صاحبة فلان" أي زوجته ومنها قوله تعالى {وصاحبته وأخيه} (المعارج، 12)، أما "صاحبه فلان" فتعني صديقه. والآن فقط فهمت سر تضجر الزوجات من أصحاب أزواجهن، فالأمر ليس غيرة من طول الأوقات التي يقضيها الأزواج من أصحابهم، بل المسألة وراءها منافسة نقطية على ما يبدو.
- "نشرة الأخبار" أمر مفيد، أما "نشرُه الأخبار" فأمر غير مفيد دائما، وقد يعني أنه نمّام.
- "طلب من القاضي أن يهدئ من روعه" وهذه مبادة مشكورة من السيد القاضي، أما أن يطلب منه أن "يهدئ من روعة"، فنحن هنا أمام مشكلة قانونية، فروعة ماذا التي عليها أن يهدئ منها؟ ولماذا عليه أن يهدئ منها ويخفف والروعة شيء رائع؟ وإذا فهمتهم شيئا، سيكون هذا شيئا رائعا فعلا!
- "صلاة العشاء" معروفة، أما "صلات العشاء" فهي الصلات التي تُؤسس وقت العشاء وغالبا تكون عبر مد الموائد، ويكون الناس بذلك وثقوا صلاتهم ببعضهم البعض عن طريق التعارف الكرشي!
- إذا رأيت لافتة عليها عبارة "انتبه"، فعليك بذلك، لكن إذا رأيت لافتة تقول لك "انتبة" فأرجو ألا تعيرها أي اهتمام، فليس من المعروف عن البشر مقدرتهم على الانتبات، فهذا أمر خاص بالكائنات التي يجري الكلوروفيل في عروقها.
- إذا قال أحدهم أن فلانا "زاره في يوم جمعة"، فهذا أمر مفهوم، أما إذا "زاره في يوم جمعه" فمسالة فيها نظر، إذ من المفروض أن يقول أنه زاره في يوم "جمعهما" هما الاثنين وليس "جمعه" هو فقط. إلا إذا كان المزور مدرس لمادة الرياضيات مثلا ويقوم بعلميات الجمع أثناء تصحيحه دفاتر الطلبة!
والآن بعد أن قرأتم مقالتي، أعلم أن بعضكم قد "هاله ما قرأ". الآن تخيلوا يأتي أحد ويكتبها "هالة ما قرأ" ويطالبني أن أشرح للقراء من هي "هالة" التي قرأها. يا للهول!