لم أكن أعرف أن الطريق بين مدريد وقرطبة بالقطار السريع يستغرق ساعتين فقط، وهذه هي المرة الأولى التي أمر فيها على قرطبة منذ ثلاثين عاما، فأنا لم أدخلها من قبل ولم أزر مسجدها الشهير، ساعتان فقط.. شيء عجيب، كنت أظن أن قرطبة وغرناطة بعيدتان جداً عن مدريد، فإذا بهما قريبتان، قريبتان إلى درجة أنني لا أستطيع أن أسمي رحلتي هذه رحلة أندلسية، فموضوع الأندلس لم يبدأ في مدريد، ولكن في دمشق، والرحلة الأندلسية بدأت بولادة حضارة أذهلت العالم قروناً، وشكلت جسراً ضخما للمعرفة بين الشرق والغرب قبل أن تأفل نجومها وتنطوي صفحاتها، وتصبح أحاديث وأشعارا وحنينا غامضا في صدور قوم لا يفقهون حركة التاريخ إلى درجة تكرار مآسيها بحذافيرها وبنفس آلياتها.  



منذ أسابيع وأنا أعاني "حياة" دون "إنترنت"، ولا هاتف، ولا بث تلفزيوني، لا أرضي ولا رقمي إسباني ولا فضائي عربي أو أجنبي، ما شجع بعض الأحبة أن يطلبوا إليَّ مرافقتهم في رحلة إلى جامعة في مدينة "السبتة" لإجراء حلقة بحث جامعي في سياق التحضير لدرجة الدكتوراه في علوم ونظريات التربية، أغراني العرض لأنني لم أزر السبتة من قبلُ ولم أسافر في هذا الاتجاه، إنها فرصة فريدة من نوعها للكتابة عن "موضوع الأندلس"، بعد سنوات متطاولات لم أرغب فيها في تناول هذا الموضوع؛ لأن التاريخ مارد هاجع يمكن لنا أن نرمقه، أن نلاحظ حركاته وسكناته، أن ندرس إشارات الحياة والموت لديه، أن نحاول فهم طبيعته، أن نهدهده، أن نتعلم مما نعرفه عنه، أن نستحضر إيجابياته وسلبياته، ولكن الذي لا يجب فعله أبداً هو إيقاظه! إيقاظ التاريخ يعني عودته إلى الحاضر بأخطائه وجرائمه وزلازله، واستحضار آلامه لتقوم بفعل تدميري من جديد، وهذا ما حدث في البوسنة والهرسك بعد 700 عام، وهذا ما حدث في عراق القرن الحادي والعشرين، وهذا ما يحاول البعض ومن أكثر من طرف إحداثه في "إسبانيا" وفي أوروبا اليوم.  
الطريق من مدريد إلى قرطبة حبلى بالمشاعر المتوثبة والمشاهد، باللوحات التي لبست حللا قشيبة من السندس بعد سنوات عانت فيها إسبانيا الجفاف والقحط، سهول خضراء تمتد، هضاب تغطيها أشجار الزيتون، سماء زرقاء مطرزة بالغيوم، قرى متناثرة، وصمت تفرضه طبيعة الرحلة بالقطار، فلا تماسّ مع الطبيعة، أنت تلاحظها من وراء الزجاج السميك الذي يحجب عنك رائحة النسيم الذي تظنه في هذه اللوحة عليلا! كما تحجب عنك زقزقة العصافير، وأصوات المحركات الضخمة التي تنتشر في كل مكان، تنبئك بأنك في أوروبا؛ حيث لا تقتصر المدنية على الأسواق التجارية، ومحلات بيع الوجبات السريعة، ومئات الآلاف من السيارات التي تكتظ بها المدن وتنوء بها البيئة. أنت في أوروبا يعني أن العناية بالزراعة هي كالعناية بالمدينة، وأن الأرض الخضراء تعني حضارة وازدهارا وأمنا غذائيا، وتفكيرا بالمستقبل والأمة والإنسان.  
عشرون كيلومترا تفصلنا عن قرطبة، بقايا قلاع وحصون متناثرات هنا وهناك على حدود القرى البيضاء، بيوتها ناصعة البياض، يحدّثك هذا البياض عن أناس نشطاء لا يرضون مرور يد الزمن على بيوتهم، فهنا تقوم النساء والأولاد كل عام بطلاء تلك البيوت القروية لتجديد مظهرها ونظافتها، ولتكون القرى موحدة الألوان، عادة إسبانية ثابتة عرفتها في كل قرية مررت عليها وفي جميع مقاطعات هذا البلد.  
قطعان من الخرفان الكسلى، البقر يرعى في سلام وأمن، أشجار الزيتون تمتد إلى ما لا نهاية، وأتساءل: كم هو عمر هذه الأشجار؟ وواجهة معبد يهودي ضخم بنجومه المسدسة، هي أول ما يستقبلك في قرطبة، وبرتقالة واحدة على شجرة في مدخل المدينة، هذا ما بقي من قرطبة تلك! المملكة التي هزت أوروبا وزلزلتها بعلمائها وحضارتها ورائحة طيبها وعبق بهائها.  
وأجد نفسي أسأل: كيف حدث ذلك الذي حدث؟! كيف تم استئصال أولئك القوم؟ وتدمير هاتيك الحضارة؟ إنها دورة التاريخ التي وقفت عجلتها في ضمائر المسلمين، لم يستطيعوا الدفاع عن إخوانهم في حينها فأورثهم الله ندامة وألماً يجترونهما قرونا جيلا إثر جيل!
أين كانت جيوشهم المسلحة، وقوتهم وخيلهم ورجالهم الذين كان يُنتظَر أن يقوموا بحمايتهم والذود عن وجودهم وحياتهم وأعراضهم وأموالهم؟! كانت في حماية الأنظمة الغبية الملحقة بملوك الطوائف! تحمي كراسيهم وملكهم وثرواتهم المنهوبة من شعوب غافلة شاخرة مستكينة متماوتة متكلة مرتكسة إلى الأرض، لقد تُركت البلاد والعباد مستباحة لكل طامع، واستسلم الناس لملوك طوائفهم، بل كانوا أشد منهم طائفية وعنصرية وكراهية وتشتتا وتمزقا واختلافا ورفضا لبعضهم بعضا! لا يمكن لك على مشارف قرطبة إلا أن تذكر "وليد سيف" و "حاتم علي"، الرائدين ودون منازع اليوم في باب استحضار التاريخ لا إيقاظه!  
ورغم هذه الحقيقة المؤلمة، ثبت الناس في الأندلس، وجاهدوا وثاروا وقاتلوا مئتي عام، لم تُجْدِهم فتيلا؛ ذلك أن كل تحركاتهم وثوراتهم كانت فردية، روح العصبية والأنانية كانت قد دكت كل حصونهم الداخلية وأُتوا من حيث لم يحتسبوا.. من عند أنفسهم.  
كم هو عمر أشجار الزيتون هذه التي تعد بالملايين تحيط بقرطبة وتعانقها وتحضنها، ولا شيء غير الصمت يحدثك، أم أنه في واقع الحال لا يحدثك بشيء؟! هذا السؤال عن عمر أشجار الزيتون أرهقني وأرغمني على الخوض في رحلة لم أجد لها اسماً مناسبا إلا "الرحلة الأند..."، رحلة لا اسم لها ولا صفة، رحلة لا علاقة لها بالماضي الأندلسي ولا الحاضر الأندلسي، رحلة منبتّة عن ذلك التاريخ الإنساني المؤلم، ولا تُعنى بهذا الحاضر المدني القلق، رحلة دعاني إليها بعض الأحبة من طلبة الدراسات العليا في كلية التربية في جامعة الكومبليتنسة في مدريد، ومن طلبة الطب في جامعة سان خوان في ألكانتة، رحلة لم أكن أعلم أنها ستحملني إلى آفاق جديدة في رؤية الأشياء والأحداث قديمها وحديثها.  
طريق سريعة، عشرات الشاحنات المحملة بالبضائع من وإلى قرطبة، تقنيات زراعية حديثة تنتشر في هاتيك الحقول التي تبدو وكأنه لا نهاية لها، كل شيء يدل على أنك في إسبانيا ولست في الأندلس. بدأت تظهر معالم المدينة البيضاء، فوهات مداخن المصانع الضخمة، هذه القرطبة ليست هي تلك، ولأول مرة وبعد أعوام الجفاف أرى السواقي والأنهار الصغيرة على جانبي الطرق ملأى بالماء، والأرض تهتز وتربو، هل هي هي؟! هذه السواقي والجداول؟! لماذا تلح علينا الأسئلة بهذا الشأن؟! هل لأننا نعيش واقعا يكاد يكون متطابقا، ونخشى مستقبلا نكاد نجزم بأنه سيكون مماثلا؟!  
بدأت تظهر معالم المدينة البيضاء، عجيبة هي هذه المدينة، تحيط بها سهول ممتدة إلى حيث يبلغ بك البصر، لا جبال ولا غابات، ولا أسوار لحماية المدينة، فلا عجب أن لم يجد الناس ملجأ أو مغارات يختفون فيها أوان وقوع الكوارث! جسور حديثة معلقة، جبال بدأت تتراءى عن بُعد، ممرات وإشارات لتنظيم السير عبر سكة القطار، جبال نُحتت أجزاء منها لاستخدام صخورها في البناء، وتُركت وراءها بقع بيضاء ضخمة تحدثك عن أن هذا الجبل جريح، جراح هذه الجبال بيضاء ناصعة، سهول وسهول، زيتون وبرتقال ونارنغ على طرفي الطريق، لم ندخل المدينة، ولم نرها، ولم أستطع تمييز رائحة نارنغاتها عبر لوح الزجاج السميك، لم أزر ذلك المسجد التاريخي، الذي صار كاتدرائية ولكنه ما زال يُدعى لدى كل سكان الأرض مسجد قرطبة الذي أثيرت فيه قبل شهر مشادة عنيفة بين شباب مسلمين أتوا من النمسا لزيارة سياحية في مقاطعة أندلوثيا الإسبانية الجنوبية، وبين رجال الأمن الذين تصرفوا بوحشية لا مبرر لها بإيعاز من رجال الكنيسة في قرطبة، الشباب يتصرفون بعواطف جياشة، يتمسكون بالأشياء والأماكن والذاكرة، والشيوخ يرون من خلال الذاكرة نفسها ما يمكن وما لا يمكن، شباب النمسا من المسلمين أرادوا الصلاة في مسجد قرطبة تشبثاً بالتاريخ الذي ولَّى، أما المسلمون في إسبانيا فهم يريدون الصلاة في أي مكان في حرية وأمن بحثاً عن مكانهم في الحاضر والمستقبل، الحدث نفسه والمكان نفسه والتاريخ نفسه، ولكنهما رؤيتان مختلفتان للحدث والمكان والتاريخ، رؤيتنا للأشياء دائماً تتغير بتغير الزاوية، حقيقة رياضية ناصعة!  
بدأت تغزو أنفي روائح العطر، عطر المدينة، ولم أدر أكان ذلك حقيقة أم أن عبق التاريخ أشد صلابة ونفاذاً من زجاج القطار السريع! السفر بالقطار لا يشبه السفر بالحافلة، القطار يلامس المدن، ويلتف حولها في لطف وأنس، ويريك الصورة عن بُعد، الحافلة تخترق المدينة بعنف مؤلم يؤذي البيئة، ويريك قطع الفسيفساء الصغيرة المتناثرة، وتحتاج إلى رحلة بالطائرة وأخرى بالسيارة وثالثة مشياً على الأقدام حتى ترى الصورة كاملة غير منقوصة.  
ما زالت السهول تمتد أمام ناظرينا، وبرتقالة واحدة على شجرة بالقرب من اللافتة التي أنبأتنا بأننا وصلنا قرطبة، وبدأت معالم جبال بعيدة بالظهور، جبال خضراء تكلل هاماتها الغيوم، وتغطي سفوحها الغابات، وأخيرا.. هاهو مكان يمكن للناس أن تلجأ إليه فراراً من جهنم!* -يتبع-


عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية