لقد تسلح الاستعمار الهولندي في إندونيسيا Indonesia بنظرية من طراز فريد كان مؤداها أن الحاكم يملك الشعب، تلك النظرية التي لم تجعل للهولنديين أية فرصة يدعون بها أن عليهم أي التزام خُلُقِي نحو سكان جاوة Jawa.

الواقع أن؛ الغرض الصريح المعترف به من وجود الهولنديين بجزر الهند الشرقية هو الحصول على أقصى ما يمكن الحصول عليه من الأرباح بكل وسيلة تتهيأ لهم خُلُقِية كانت أو غير خُلُقِية، فقد كان جمع الهولنديين لأقصى ما يستطيعون سلبه من ثروة الجزيرة في خزائنهم هو أبسط أهدافهم التي يعبرون عنها على الملأ صراحًا جهاراً. ولذلك حرصوا على الحيلولة دون تمتع أهل جاوة Jawa بأي رغد، فحولوا الشعب بأكمله إلى عبيد slaves، كما تحولت الجزيرة كلها إلى ضيعة Manor يحكمها ممثل الدولة الهولندية على طريقة الضياع الكبرى، فضاعت أبسط الحقوق وأرغم الهولنديون الأقيال والفلاحين على زراعة البن وتقديمه إليهم بسعر محدد. وليس هناك في التاريخ نظير لهذا النظام الاستغلالي البشع، فالاستعمار الهولندي وبحق أعنف أنواع الاستعمار الحديث الذي تجرعت منه إندونيسيا الإذلال وتردت فيه حتى أنقذها إلهام الإسلام.


فقد دخل الإسلام في الأصل إلى تلك الجزيرة من الهند على يد التجار، ولم يكن حتى منتصف القرن السابع عشر ليزيد عن طبقة إسلامية رقيقة تغطي على المعتقدات الهندوكية القديمة. على أن ديانة كالإسلام يحافظ على تماسكها وسلامة شعائرها وصلابة عودها منسك كمنسك الحج السنوي إلى المدن المقدسة (مكة والمدينة)، ومواصلة نشر العلم بين أتباعه بما كان يقوم به الأئمة والوعاظ؛ لم يكن ليدوم معها والحالة هذه مثل ذلك الموقف أية فترة من الزمن، فقد كان الحجاج الجاويون العائدون من مكة يجلبون معهم العلماء إلى بلادهم.

والجدير بالذكر أن؛ تركيا إبان القرن السابع عشر كانت تمثل مركز الإسلام في العالم، وبفضل وصول الشيوخ والحجاج والأئمة من مكة والشرق الأوسط، أخذ تحول هائل يلم بالأحوال الدينية والاجتماعية والسياسية بإندونيسيا. وقد شهدت فترة اشتداد الدعوة الإسلامية من الناحية الدينية، قوة المبادئ الإسلامية، وبدء تكوين سلطة الزعماء الدينيين، وتنظيم وسائل المقاومة للعدوان الديني المسيحي، وتقريب الأهالي من فلك النظرة الإسلامية وإبعادهم عن ما تبقى لديهم من التقاليد الهندوكية. أما من الناحية الاجتماعية، فإن تأثير مكة كان موجهًا إلى دفع الناس على التمشي مع سنن الإسلام في الزواج والمواريث إلى غير ذلك مما ينطوي تحت أحكام الشريعة Sharia. أما من الناحية السياسية، فإن الحركة كانت تمثل روح مقاومة، وظهرت عدة شخصيات مثلت الانتعاش السياسي للإسلام، كما ساهم بعض السلاطين مثل السلطان عبد الفاتح في نشر الإسلام.

وقد أدى اشتداد قوة الإسلام إلى ازدياد عظيم في شدة مقاومة الأهالي للعدوان الهولندي بالجزر، فكان الدين من أكبر أسباب الحروب المتواصلة على الهولنديين بالأرخبيل Archipelago، تلك الحروب التي تكون ظاهرة ملحوظة في التاريخ إبان النصف الثاني من القرن السابع عشر. ولم يبد الهولنديون بطبيعة الحال أي اهتمام بتعليم الإندونيسيين، وكان ذلك فرصة انتهزها الإسلام لتقوية مركزه، فأصبح التعليم احتكارًا فعليًا لرجال الدين المسلمين، وكانت المساجد Masaged هي المراكز الطبيعية التي يشع منها ضياء العلوم الإسلامية ويؤثر في الجماهير.

وقد دفعت سياسة الهولنديين الأمور إلى أزمة عاتية عام 1808م انتهت بوصول تجريدة بريطانية وتوقيع الهولنديين شروط التسليم، حيث انتقلت بذلك سيادة الإمبراطورية الهولندية للبريطانيين مدة أربعة عشر عاماً. وحكمت بريطانيا حكمًا شبه حضاري، حيث ألغي تقريبًا نظام الحكم غير المباشر الذي عاد على الهولنديين بالأرباح الطائلة دون أن يحملهم متاعب الحكم أو همومه، كما وضع حدًا لنظام الضيعة الكبرى الجائر وغير الإنساني.

وعندما أعيدت المستعمرة إلى الهولنديين لم يجدوا مناصًا من قبول المبدأ القائل بأن إندونيسيا ينبغي أن تحكم من أجل أبنائها، وعندئذ أُعلن أن غرض الملك هو النهوض بمصالح جميع رعاياه دون أي استثناء. وكانت سياسة هولندا بعد عودة الملكية سياسة استغلال شديد لجاوة وأجزاء من سومطرة Sumatra، كما استطاع الهولنديون أن يحولوا زمنًا طويلاً بين الإندونيسيين وبين القيام بحركة وطنية، كان ذلك بعدم تشجيعهم للتعليم العصري بين الأهالي، وإنشائهم نظامًا لتعليم محلي يحجب جميع الأفكار الحديثة عن المدارس، وظلوا نحو قرنين دون أن يقوموا بأي عمل يسجل لهم السعي لتحضر البلاد، ولم يكن يعينهم من الأمر سوى ثروات إندونيسيا ، التي قيل أنها بلغت 1/6 "سدس" الدخل القومي للشعب الهولندي.

بيد أن؛ هذا العزل الجبري المفروض على إندونيسيا عن سائر أقطار العالم كان شيئًا لا يمكن مواصلته للأبد، فقد كان من المحتم أن تتأثر إندونيسيا أيضًا بحركة الجامعة الإسلامية في الشرق الأوسط، وبالشباب الإندونيسي الذي وفد إلى أوربا، فضلاً عن ثورة 1919 في مصر، والتي خلقت في البلاد مع "حركة عدم التعاون" التي دعا إليها غاندي (1869 - 1948) نوعًا جديدًا من الحماسة. فبدأ الحزب الوطني جهاده أصلاً بالإلحاح في المطالبة بإصلاح التعليم، وكان نشاطه السياسي محدود جدًا، ولكن بعد ظهور حزب "تركيا الفتاة" وتأسيس "العصبة الإسلامية" بالهند حدث أن حمل عصا القيادة حزب جديد يدعو إلى "الوطنية الدينية" وهو حزب ساريكاتْ إسْلامْ (الإتحاد الإسلامي).

وأخيرًا؛ فإن الحقيقة التي يمكن ملاحظتها في إندونيسيا أن الحركة التي أدت إلى استرداد الاستقلال استمدت إلهامها من مصدرين: إحساس قوى بالوحدة الدينية، وإدراك تام متزايد لأهمية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، فقد استقلت إندونيسيا على أساس من الدين، وذلك كما يقول ابن خلدون "كثير من الدول تقوم على أساس من الدين".

المراجع:
جاد طه، دراسات في تاريخ آسيا الحديث، القاهرة 2001.
عفاف مسعد العبد، دراسات في تاريخ الشرق الأقصى.- الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 2000.
محمد علي القوزي، حسان حلاق، تاريخ الشرق الأقصى الحديث والمعاصر.- الطبعة الأولى.- بيروت: دار النهضة العربية، 2001.
M.C Ricklefs, A History of Modern Indonesia Since c.1300.- second edition.- London: MacMillan, 1993.
Adrian Vickers, A History of Modern Indonesia.- London: Cambridge University Press, 2005.

مؤرخ وأكاديمي مصري

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية