المعركة دائبة على الساحة الإعلامية: "لاورا آراوا" ، "دافييد سيغاررا" ، و"مانويل تابيال" ، النشطاء الاسبان الثلاثة ، الذين كانوا ضمن قافلة الحرية ، وصلوا قادمين من تركيا إلى مطار برشلونة بعد ظهر الجمعة ، ليقفوا وقفة شرف وبطولة يفتقر إليها كثير جدا من العرب والمسلمين في أيامنا هذه ، وليُسمعوا العالم كله صوتهم ، حيث وللأسف لم نجد ضمن مئات الكاميرات وناقلات الصوت التي احتشدت في استقبالهم كاميرا عربية واحدة تغطي مثل هذا الحدث الجلل الذي يعتبر شهادة نادرة ليس على الحدث الذي هز العالم فحسب ، بل على العصر الذي نعيشه كذلك!!، لقد تحدث هؤلاء الشبان الثلاثة بصوت الحق والحقيقة إلى عالم اعتاد أن يصم أذنيه عن صوت الحق والحقيقة.
ذلك المشهد الرهيب ، مشهد ثلاثة شبان اسبان وقد حملوا العلم الفلسطيني والتحفوا الكوفيات الفلسطينية ، ورفعوا أيديهم بإشارات النصر ، كنت أتمنى لو أنه تم نقله على الهواء مباشرة إلى عالمنا العربي المنكوب بقلة حيلته أو حماقتها وبكراهيته للآخر وشهوته الدفينة للانتقام منه!، "مانويل تابيال" قال لوسائل الإعلام : (إنه عاش معنى الإهانة والعنصرية على يد الذين اعتقلوه وعاقبوه –بسبب عدم امتثاله للأوامر- من دون بقية المسافرين بحرمانه من الطعام ، وأن الرصاص بدأ ينهال على الرؤوس من طائرات الأباتشي وأنه رأى قتيلين على سطح المركب قبل أن تتم عملية الإنزال العسكري ، وأن على العالم أن ينحني احتراما للدولة التركية التي تصرفت بشكل ماكان ينتظره )، "لاورا آراوا" قالت : (لقد أُرغمت كغيري على التوقيع على ورقة يسمح لي بموجبها بالمغادرة بعد أن عوملت معاملة المهاجرين غير الشرعيين في "اسرائيل" التي اختطفتنا قواتها الخاصة المدججة بالسلاح و في المياه الدولية) ، أما الصحفي "دافييد سيغاررا" فقد اتهم تلك القوات الخاصة الاسرائيلية (بقتل صحفي إلى جانبه بطلقة بين عينيه !، جرمه الوحيد أنه يحمل كاميرا تصوير، وذلك قبل سرقة كل معدات الصحفيين الذين كانوا على متن الصحيفة ) ، وطالب "سيغاررا" : (بطرد السفير الإسرائيلي في إسبانيا من جميع أراضي الاتحاد الأوربي) ، بسبب التصريحات التي قال فيها "إن موت الناس في حريق بنغلادش أو في حوادث الطرق السريعة في اسبانيا لايختلف كثيرا عن موت الضحايا الذين سقطوا على متن مركب "مرمرة"! ، وأضاف الصحفي : (إن السفير الاسرائيلي يعتبر أن قيام جنود بلاده بقتل الصحفيين العزل في عرض البحر يماثل الكوارث الطبيعية وحوادث السيارات" ، ( لقد حاولوا إسكاتنا فافتُضح أمرهم في كافة أرجاء العالم)!!.
هذه الشهادة في بث حي ومباشر ستعرض على مجموعة من المحامين ، وسيستمع إليها في مقابلة خاصة وزير الخارجية الاسباني ليبتّ في أمر الإجراآت المناسبة التي يجب أن تتخذها بلاده التي تأخرت كثيرا في نجدة أبنائها الثلاثة ، ولم تعيرهم الكثير من الاهتمام ولا المصداقية اللازمة في مثل هذه الحالات !، وشيء مشابه سوف يتم في مختلف الدول الأوربية التي جاء منها نشطاء حقوق الإنسان ، ممن يعتبرون فخر الإنسانية اليوم ، وممن أعادوا لأوربة شيئا من مصداقيتها المطروحة أرضاً على يد وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الجماعات الصهيونية في طول أوربة وعرضها !.لقد مسّت إسرائيل في قرصنتها المفضوحة هذه ثوابت راسخة لدى الإنسان الأوربي والمؤسسات الرسمية والشعبية الأوربية ، والتي منها انتهاك قداسة وحصانة العمل الصحفي ، وانتهاك قداسة وحصانة العمل الإنساني السلمي ، والذي طالما غزت أوربة من خلاله مختلف بلاد العالم بتسييرها إليها جيوش المساعدات الإنسانية ، والمراقبين الدوليين ، وتحت لواء الانتصار لحقوق الإنسان!!.
لم تكد وسائل الإعلام الأوربية تنشر خبر الهجوم الإسرائيلي الأحمق الغبي – وربما المقصود والمدروس والمخطط له بأهداف سوف تتبين خلال الأيام أو الأسابيع القادمة- على قافلة الحرية ، حتى انبرت الألسنة المأجورة في أكثر من ثلاثين قناة تلفزيونية في اسبانية مبررة موقف "إسرائيل" المسكينة الضحية !، التي اعتُدَيَ على جنودها "المساكين" في عرض البحر ، بالأسلحة البيضاء والعصي والكراسي !!!-هكذا- ، وكأن العالم بلغ من الغباء درجة لايمكنه معها فهم ماذا يعني اقتحام الجيش "الذي لايقهر" مراكب تحمل مساعدات إنسانية إلى أرض لم تكن إسرائيل تريد تصنيف احتياجات شعبها بالإنسانية! ، إلا أن وقفة شريفة عامة وموحدة لجميع حكومات الاتحاد الأوربي بما في ذلك الموقف البريطاني الخجول ، حملت وسائل الإعلام على استعادة الكَرّة ، ولقد رأيت ولأول مرة في اسبانيا صحفيين كبارا يستعرضون هذا الحدث بحرقة وتشفٍ ، أن استطاعوا أخيرا قول كلمة حق في هذه القضية التي تُشوه عامدا متعمدا بفعل الصحفيين المأجورين لدى السفارة الاسرائيلية في مدريد ، والمعروفيين للقاصي والداني ممن يعملون في المجال الإعلامي والصحافي في اسبانيا.
ماكادت تصريحات النشطاء الثلاثة تُعرض وعلى الهواء مباشرة في وسائل الإعلام الإخبارية الاسبانية ، حتى قام السفير الإسرائيلي بعقد مؤتمر صحفي قال فيه وبالحرف : (إن هناك حملة منظمة ضد بلاده تؤسس لكراهية اليهود وإقصاء إسرائيل ، وأن الاسبان الثلاثة لايمكن أخذ أقوالهم بعين الاعتبار وكأنها صدق مسلم به) !!، ولم يكتف السفير الإسرائيلي في مدريد بذلك ، فلقد أخذ يجوب مختلف وسائل الإعلام الإسبانية في مقابلات لم يوفر فيها فرصة ولاماء وجه وهو يوزع السباب والشتائم والاتهامات على مختلف هذه الوسائل ، وعلى الشعب الإسباني الذي يختلف عن غيره من الشعوب الأوربية في التعامل مع إسرائيل –كما قال خاصة في مقابلة أجراها معه تلفزيون "انترايكونوميا"- ، ودون أن يستطيع صحفي إسباني واحد وعلى الهواء مباشرة الرد على تلك الإهانات والاتهامات !!.
تماما وبالضبط وكما حصل يوم قتل الطفل الفلسطيني الشهيد "محمد الدرة" ، انقلبت الصورة والكلمة على الساحر الذي طالما استخدمهما ، أتى بسحر عظيم ليسحر قلوب العالم ويضله عن الحقيقية الفاغرة فاها في فلسطين المحتلة منذ مائة عام ، لقد أصيبت "إسرائيل" اليوم بواحدة من أكبر هزائمها الديبلوماسية والإعلامية في تاريخها ، وافتُضحت بطريقة غير مسبوقة ، كما افتُضح اللوبي الصهيوني الذي ينخر في وسائل الإعلام الأوربية ليلا ونهارا ، والذي سيستأنف عمله مثخنا بجراحه دون أن يلقي أسلحته ، لأن "أسرائيل" كانت ومازالت وستبقى عملية تضليل مستمر دؤوب في المشاعر والضمائر والعيون ، ولأن إسرائيل لايمكنها أن تستسلم أو أن تلقي أسلحتها الإعلامية في الاتحاد الأوربي ، وفي زمن زحف فيه الإسلام إلى هذه الأرض بذل ذليل ، ليصبح عاجلا أم آجلا قوة لايستهان بها في صناديق الاقتراع الأوربية ، ستُتَرجم رغم أنف إسرائيل إلى سياسات لازمة في المنطقة العربية ، النائمة السادرة الشاخرة المصفقة لبعض التفجيرات الغبية هنا وهناك في الأراضي الأوربية التي سيأتي منها التغيير وسيكون منها الانبعاث الإنساني الذي تفتقده الإنسانية ، ليس لأن أوربة أرض الديمقراطية التي تزلزلت بسبب تلك التفجيرات ، وليس لأنها أرض الحريات التي قُيدت خوفا من الاسلام ، ولكنها أرض الإنسان الذي تربى ليكون حراً نزيهاً شريفا ، إذا ماأتيحت له الفرص ليعرف الحقائق.
لم يحتمل الكيان الصهيوني أسبوعا واحدا فقط من الضغط العالمي الخفيف ، والانتقادات الدولية اللائقة ، ومجابهته بالحقائق التي ودّ أن يشوهها من جديد ظناً منه أن أوربة في جيبه !، لم يحتمل سبعة أيام من النقد والمراجعة ، مقابل احتمال هذه الأمة عقودا متطاولة من الأذى وحملات التشويه والقمع والارهاب والإقصاء الفكري والإعلامي ، والإذلال والتركيع النفسي ، والقهر الإنساني في حروب إعلامية دائبة لاتتوقف آناء الليل وأطراف النهار ضد هذه الأمة وضد إنسانها ووجودها وحضارتها ، لأن الاستكبار الاسرائيلي بلغ من الصلف أن ظن أن بإمكانه أن يفعل مايشاء دون رقيب ولاحسيب مادام ظهره محميا بهذا الاسطول الإعلامي والديبلوماسي الهائل ، لكنه سقط في فخه ، ولن يدوم هذا السقوط طويلا ، ليس لأن إسرائيل قادرة على الوقوف على قدميها من جديد في هذا المجال فحسب ، ولكن لأن العرب مازالوا في مرحلة الشخير والسبات العميقين ، إلا من رحم ربي ، ومن هؤلاء ممثل السلطة الفلسطينية في مدريد السيد "موسى عامر عودة " ، الذي دُعيَّ إلى مناظرة مع السفير الإسرائيلي في القناة الاسبانية الحكومية الأولى عشية عملية الاقتحام ، فأبلى بلاء متميزا لم ينتقص منه إلا عدم تمكنه من اللغة الاسبانية ، ولم يسمح للسفير الإسرائيلي بأن يجره إلى مهاترات قذرة وأن يوقعه في مطب قذف "حماس" ، حيث أجابه قائلا : ( إن الشعب الفلسطيني يتشكل من العديد من الفصائل والاتجاهات السياسية والفكرية ، وإن حماس جزء من هذا الشعب ، ولئن كنت تصف حماس بالتطرف والإرهاب ، فإنها أقل تطرفا وإرهابا من بعض أعضاء حكومتكم من المستعمرين المستوطنين الذي يسكن في بيت لحم منزلا اغتصبه من مواطن فلسطيني).
المعركة الإعلامية مازالت دائبة ، على الرغم من الهزيمة النكراء التي مُنيت بها إسرائيل في هذه الجولة ، بانتظار أن يستفيق العرب حكومات وشعوبا وإعلاما ، ليساعدوا المواطنين الأحرار في مختلف أنحاء العالم ممن بدؤوا السير نحو الأراضي الممتحنة لتحرير الشعوب المحيطة بها من ارتكاسهم وهوانهم وتخبطهم يبحثون عن مخرج.