هذه مجموعة أخرى من مواويل الشاعر الباذخ يحيى السماوي، وهي مواويل تنتمي إلى مدينة السماوة العراقية التي ينحدر الشاعر منها بجدارة وفخر، وأما نهاوند فهي مدينة إيرانية، غير أنَّ "نهاوند" هنا هو اسم حبيبة الشاعر "أمّ الشامات" التي تغنَّى بها على مدى هذه المجموعة الشعرية الثامنة عشرة "لماذا تأخرتِ دهراً"، التي صدرت هذه الأيام عن دار الينابيع في دمشق، وجعلها ووطنه العراق في كَـفَّتـَيْ ميزانه. وأقول "أم الشامات" من باب التكثير، فهما شامتان فقط!.

غير أنّ العدل الذي يتَّسم به هذا الميزان هو الرومانسية العالية التي تتحلى بها قصائد هذه المجموعة، حيث تتجلى عذوبة اللغة الشعرية وشفافيتها، والقدرة المائزة على الوصف والتشبيه والتصوير.

أمَّ الشامات

أما نهاوند الحبيبة فقد خصَّ بها الشاعر قصيدته التي تحمل اسمها، وجعلها تدور في أغلب قصائده الأخرى دوراناً، فمراتٍ باسمها الصريح، ومرات أخرى بأحد أهم لوازمها، وأعني شامتيها، والشامة في اللهجة العراقية هي الخال.

تبدو حبيبة الشاعر نهاوند وكأنها الرجاء الذي طال انتظاره، فقد تأخرتْ عليه دهراً، وليس ذلك بزمنٍ قصير، ولذلك فهو يستحق إطلاق الحسرات وبثّ اللوعات والحزن على ما فات:

آه/ لو أنَّ التي دقّت – غروبَ العمرـ بابَ القلبِ/ قد دقّتْ ضُحى العشقِ/ فأغفو هانئاً بالتين والتوتِ/ على نهر المودة. (ص90)

ولكنها جاءت وبين يديها علاج الأحزان وطلاسم الشفاء، وعشب الحياة، حيث البدء من جديد:

"نهاوند" اختصار للخرافة (ص27)/ نهاوند ابتدتْ مطرا/ يضاحك رمل أيامي/ ويوقظ في براري غربتي عشباً/ ويسكن شرفتي قمرا/ نهاوند انتهت في سفر أخبار الهوى خبرا (ص113)/ سيبدأ من جديدٍ/ رحلةَ الأحلامِ/ قلبٌ شفَّهُ الوصبُ!، (ص117)، أبدأ القصة من آخرها:... ذهب العشاقُ والعشقُ بقي/ طالما كنتِ شراعي فأنا... مُبحرٌ حتى حدود الغرقِ. (ص172) جزتُ خمسيناً وتسعاً وأنا... لم أزل طفلاً بريءَ الحَمَقِ/ شاخَ لكنَّ الهوى أرجَعَهُ... كابنِ عشرينَ صَبوحَ الأفقِ (166).

أما الخالان فهما سر الاتصال الروحي بين الشاعر وحبيبته، ويبدو أن الشاعر يتلذّذ بتكرار ذكرهما، كما يتلذذ بتكرار اسم حبيبته "نهاوند"، في حالتي الخطاب أو الإخبار: والليل أودع شامتيها/ جفن مُقلته الكحيلْ (23)، تُدني "نهاوند" الفراديس البعيدة من عيوني (25)، تُدني "نهاوند" المآذن من خطيئاتي (27)، ضوئية الشامات "عشقائيل" أوكلَ لي/ رسالة أنْ أبشِّر باسمك/ الوطن العليل (28)، ضوئية الشامات:/ آن لسندبادكِ/ نشر أشرعة الجنون (37)، ترمي به على رصيف الهوى/مضرَّجاً بعشقهِ شامتانْ (104)، وينتهي بنا الطواف في أجواء هذه المجموعة الشعرية دون أنْ نعرف أين تقع الشامَتان!.

وليس بوسع العشق الذي يملأ قلب الشاعر أنْ يكون أحاديَّ الاتجاه، أنانيَّاً، وقد عُرفَ بوطنيته وارتباطه العاطفي الشديد بالعراق ومدينته السماوة بكل تفصيلاتهما ومتعلقاتهما، فكأنَّ قلبه منشطر شطرين وهو مفعم بالعشق حتى الثمالة. ولذلك تراه يذكرهما وهو في محراب حبيبته يتغزل ويتشوق، ففي قصيدته "لماذا تأخرتِ دهراً عليا" التي يخاطب فيها محبوبته المتأخرة عليه دهراً يجعل الحديث معها حديثاً عن تلك التفصيلات:

فحيناً أفتش عن دجلتيَّ/ وحيناً لأهربَ من دجلتيّا/ فلا كنتُ ميْتاً/ ولا كنتُ حيّا/ لماذا تركتُ السماوة خلفي/ ويمَّمتُ نحو المقادير خطوي/ فكنتُ الشقيا؟/ أما كانَ لي / أنْ أخبِّئني ليلةً في "الصريفة"/ أو ليلتين بسردابِ قبرٍ/ وعاماً ببريَّةٍ/ ونصف عقدٍ بـ"هور الجبايش"/ عقداً مع اللوز والجوز في غابةٍ/ في الشمال../ وعاماً بكهفٍ ألملمُ بعضي إليّا؟/ (ص 61- 63).

كما فعل مثل ذلك في قصيدته "نذور": أيها الناسج من عشب الفراتين وشاحاً/ جيدُهُ يُسكِرُ عِقده (88)، وفي قصيدته "سيدة النساء": فلا أضاءتْ زورقي نجمةٌ... ولا تراءى النخلُ والشاطئانْ/ أليست النخلة في بيتنا... عمَّتنا؟ وأمنا الرافدان؟/ من قصب الأهوار (نوحُ) ابتنى... سفينهُ.. واقتحمَ الطوفانْ/ومن ثرى (كوفتنا) أشرقتْ... شمس ٌ ولا كنورها الفرقدانْ/ وفي جريد سعف بستانه... خطَّ لنا سفريهما (الأحمدان). (ص145- 147)

 

العراق العراق

وما زال يحيى السماوي يغترف من أعماق نفسه المولعة بالعراق وقد غصَّ بأعاجيب المصائب والويلات، وتوشَّح بألوان النكبات والأزمات، فصارتْ أخباره عاجزةً عن أن تسرَّ عدواً فضلاً عن صديق حيث: (الناسُ قد خُلقوا على صنفينِ/ في أرض العراق:/ ساقٌ بلا رأس/ ورأسٌ دونَ ساق. ص124). وحيث: (فلأنَّ بستان العراق غدا.... مرعى لخنزيرٍ ومرتزقِ ص158)، وحيثُ: (الشمس غادرت المدى خجلاً/ من المتناطحين على فتات نطيحةٍ/ والسحت من زقوم دولارٍ/ و"كرسي".. و"قار". ص119-120)، وحيث: (قلبُنا؟/ متَّهمُ العشق بتأليب المواويل على جعجعة الحرب/ وتأليه الطواغيت/ وتمجيد الحسام/ جُرحنا؟/ متَّهمُ النزف.../ تعبنا يا عراقَ الدمِ.. والدمعِ.. والسبايا.. والنواطير النيام.ص 102-103)

وهو لا يرى من العراق بُدَّاً حتى وهو ينظر في ذاته، ويخلو إلى نفسه وقد اقترب من الستين عمراً:

ستون.. في ركضٍ ولم أصلِ.... نـهرَ الأمانِ وواحةَ الأملِ

....

حيرانُ.. لا أدري أمِنْ خبلٍ.... غادرتُ أرضَ النخلِ أمْ خَبَلِ؟

تلك الديـار علامَ أعـبدها.... لا ناقتي فيها.. ولا جَملي

...

الجاهلية ما يزال لـــها... فـي دار نخلة ألف مشتغلِ

من طائفيٍّ ليس يشغلــهُ... إلا تسيُّـدهُ عـلى المِلـلِ

ومكبِّرين وتحت عـمَّتهم... مليونَ "شمرٍ" أو "أبو جهـلِ

....

مولاي يا نخل الفرات أما.... للعدل في واديك مِن أملِ؟

مِن أين يُرجى للعراق غدٌ.... والأجنبيُّ أبٌ لهُ ووليّ؟ ص39- 49

وتتجلَّى عبقرية السماوي في معالجة هذه الصورة المتلونة بالقتمة والظلام في قصيدته "يا ناسجاً كفني بمغزل غدره"، ففيها يحاول السماوي إحلال الوطن محلَّ الحبيب، لا لأنه أسبغ عليه أوصاف الحبيب، بل لأنه وحَّدَ بينهما توحيداً دلَّ على قدرة فائقة في التناول، حتى كاد الفاصل بينهما يكون معدوماً، ولو شاء القارئ أن يفسِّر القصيدة على أنها غزلية محض ما خانه التفسير منذ العنوان، ولو عاناها الناقد المتفهِّم ما شكَّ قط في أن المُراد هو العراق، وقد حاول الشاعر، تعميقاً لذلك، أنْ يجعل القصيدة من أولها إلى آخرها قطعة موضوعية واحدة، ولوحة فنية متجانسة الألوان، واضحة الأبعاد، دقيقة الملامح، فضلاً عن عذوبة موسيقاها، وتجلِّي غنائيتها، حتى عزَّ عليَّ اختيار أبيات بعينها دون كامل القصيدة، غير أنني سأفعل مضطراً، وسأقتطف أبياتاً من أولها ومن آخرها حتى آخر بيت:

لو كنتُ أدري ما رويتُ غليلا.... من كأس عِشقكَ فانتهيتُ قتيلا

نصبتْ لماك ليَ الفخاخُ فصادني.... عسلُ المودَّة في الصحاف الأولى

.....

يا ناسجاً كفني بمغزل غدره:.... بعثَ الهوى قلبي فعاد بلولا

أنا مُبدلٌ بجحيم عشقكَ جنةً.... وبشوكِ حقلكَ سنبلاً ونخيلا

باللؤلؤ المغشوش طينَ مروءةٍ.... وبكهف ودِّكَ روضةً وحقولا

وبسوطكَ الوحشيِّ هدبَ ربابةٍ.... وبرعد موسمكَ الكذوب هَديلا (ص74-83)

 

وفي ما بين البداية والنهاية تكمنُ تفاصيل العتاب واللوم والندم والحسرة يبثها الشاعر وهو يُناجي العراق/الحبيب على مستوىً واحد من الانفعال.. إنها مثال للقصيدة التي يأخذ بعضها بتلابيب بعض، وتنتهي من حيث يبتدئ... وتتهادى كالنهر السلسال على مدى ستةٍ وأربعين بيتاً... إنها القصيدة المثال!.

قد قلتُ قبل قليل : العشق الذي يملأ قلب الشاعر، وهذا هو قلبه:

أيها القلبُ الذي

ثلثاهُ من ماء الفراتينِ..

وثلثٌ

من رماد النخلِ

في محرقة الوجدِ..

وطين البلدِ:

طعنةٌ أخرى وتُشفَى

مِن عذاب الجسدِ. ص129-130

 

اللغة والأسلوب

يمتاز شعر يحيى السماوي بغنائية محبَّبة لمتذوقي الشعر حتى وهو يتغنى بالعراق الذي هو غارق في المآسي والويلات، والشاعر في ذلك إنما يؤكد أسلوبه في الصياغة الشعرية والنسيج اللغوي للجمل الشعرية وإلباسها المعاني التي تناسبها، وهذا هو أهم ما يتميز به شعره من الناحية الفنية، وبه استطاع أنْ يعبِّد الطريق إلى نفوس قرائه بامتياز شديد، حيث لا يجد القارئ رتابة في ما يقرؤ، أو يشعر بالملل مهما طالت النصوص، على الرغم مما يُحتاج إليه من توضيح أو تعريف من المفردات، وقد أحسنَ الشاعر فعلاً عندما ذَيَّل بعض قصائده بالتعريفات والتوضيحات الضرورية لبعض المفردات التي يظنُّ أنها في حاجة إلى تعريف وتوضيح، ولكنه لم يظنَّ أنَّ كلمة "الهرطمان" في قوله: (وضاحكتْ باديتي غيمتانْ.... فأعشبَ النعناعُ والهرطمانْ  ص105)، قد تحتاج إلى شيء من ذلك أيضاً.

 

صور شعرية

اعتنى الشاعر بالصورة الشعرية والتشبيه اعتناء واضحاً في هذه المجموعةً، ويمكن الإشارة إلى نماذج من ذلك:

1-            والروض أودعَ ثغرها/ وَهَجَ القرنفلِ/ في الأصيلْ. ص23

2-            والليلُ أودعَ شامتَيها جفنَ مُقلتهِ الكحيل. ص23

3-            نسجتْ لها الأشذاءُ بُردتها../ يكادُ يصيرُ عُشباً/ تحت خطوتها الحَجَرْ. ص24

4-            الخمرُ أشربُهُ فيسكرُ مِنْ/ شفتي ويُثمِلُ كأسَهُ ثَمَلي. ص45

5-            سادنُ الروضة مات!/ شقَّت الأزهارُ زِيقاً.. ص67

6-            نصبت لماك لي الفخاخ فصادني/ عسلُ المودة في الصحاف الأولى ص74

7-            زارني في غفلةٍ/ من مقلة الصحو/ ربيعاً ضاحكَ العشب/ ندياً../ باردَ الكوثر../يمشي خلفه نهرانِ:/ ريحانٌ وشهدُ! ص85-86

8-            أيها الناسجُ من عشب الفراتين وشاحاً/ جيدُهُ يُسكِرُ عِقدَه. ص88

9-            ومجوني ناسكُ الإثم/ أغثني لِـتُصلِّي شفتي قَصْراً. ص93

10-      فرَّ فمي مني إلى ثغرها... فراشةً هوتْ على شمعدانْ. ص107

ومَن يدقِّقُ في هذا الجانب من شعره في هذه المجموعة فسوف يقع على الكثير مما يشي بقدرة السماوي على التخييل والتصوير ما كان جامداً أو متحركاً.

....

إنَّ في هذه المجموعة الشعرية إضافات جديرة بالاهتمام على المستويين الوطني والإنساني، عما كان الشاعر عاناه من خلال قصائده التي ضمتها دواوينه السابقة، فضلاً عن التجربة الفنية، حيث التزم الشاعر بدرجةٍ عالية من الإيقاع والموسيقى الشعرية، ونوَّعَ بين الشكلين الحرِّ والمُقفَّى، وكان موفَّقاً جداً في اختيار القوافي والأوزان الشعرية، وهو أمر لا غرابة فيه إذا نظرنا إلى تجربة الشاعر الطويلة، وخبرته مترامية الأطراف في كتابة النص الشعري، وثقافته التراثية الواسعة، وقد دلَّ على خصوبة شعرية لا تنفد، وقدرة على افتراع الجديد من الموضوعات والتقنيات اللازمة لمزيد من العطاء الشعري.

......

  • ·       نشر في صحيفة المدينة السعودية العدد 17332 في 6-10-2010.
  • ·        http://www.al-madina.com/node/267435/arbeaa

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية