مقدمة:
فقد مر الأدب العربي بمراحلَ أولُها العصر الجاهلي الذي كان عبارة عن ملاحظات وآراء شعرية ونثرية أساسها الذوق السليم والفطرة الطبيعية، وقد انكشف الأدب في مباريات وأندية كسُوق عُكاظ الذي كان يَعُج بأهل الشعر وتعرض فيه الأحكام الشعرية و النقدية.
ومع دخول الإسلام الأماكن والأمصار قلا بعضه وهذب لفظه وعز نظمه ... وتقدم شأنه في عصر الدولة الأموية وذلك في مجالس الأمراء الأدبية وعطاءاتهـم السخيـة، فأقبلوا عليه دون إحجام... أما في الزمن العباسي أُقيم صـرح الأدب واللغة وجميع العلوم وتناول أهل الأدب ديوانهم بالنقد والتحليل والتصنيف، وحاولوا أن يردُوا كل نص إلى مصـدره وأن يبحثوا في الرواة ومبلغهم من الصدق والكذب.. ونذكر منهم مثلا: طبقات فحول الشعراء لابن سـلام الجمحي، والشعر والشعراء لابن قتيبة، ونقـد الشـعر لقدامة بن جعفر، والموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني، ودلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني ....وغيرهم كثير." ويعتبر كتاب البيان والتبيين للجاحـظ وأدب الكاتب لابن قتيبة والكامل للمبرد والنوادر لأبي على القالي أصولاً للأدب وما سواهما فـروع منها"[1]
وجاءت بعد زمن أرمدة من علماء الاستشراق أزالوا الغبار عن مخطوط العرب حيث جمعوا الكتب، ونشروا نفائسها وأنشؤوا المكتبات وأسسوا المعاهد ووظفوا الأسلوب العلمي والمنهج الأكاديمي في بحوثهم، فكانوا في كثير من الأحيان قدوة للدارسين العـرب المحدثين من معلمي لغتهم ومؤرخي تراثهم وباحثي أدبهم ونقدهم.
لقد ثَّور المستشرقون عدة قضايا في أدبنا المعاصر، وما كانا من بعض العرب إلا اختيار طريقهم ونهجهم، ومنهم من اكتفى بالرد عليهم وعلى أتباعهم مما أدى في النهاية إلى نهضة أدبية كبيرة خاصة في النصف الأول من هذا القرن، وظل صداه يتردد من حين إلى حين آخر إلى الآن وربما سيظل أمداً طويلا.
الإشكالية:
هل كانت تنقص العرب القدامى المنهجية العلمية في أبحاثهم ومخطوطاتهم؟ وماذا قدمت المدرسة الاستشراقية للأدب العربي؟ وهل مـارس النقد الاستشراقي الأدبي دوره الموضوعي؟ كل هذه الطروحات سوف نحاول الإجابة عنها في هذه الورقات.
ولكي يتسنى لنا استثارة هذا البحث نحتاج إلى خطة عمل تتمثل في عناصر هي:
1- تعريف الاستشراق.
2- المنهج النقدي من منظور استشراقي.
3- آثار المستشرقين في النقد الأدبي الحديث.
الخاتمة.
1- تعريف الاستشراق.
يقول ادوارد سعيد " فقد كان المستشرقون لعقود قد تحدثوا عن الشرق وترجموا النصوص، وفسروا الحضارات والأديان والسلالات والثقافات والعقليات...وكان المستشرق خبيراً مِـثل ساسي ورينان ووظيفته في المجتمع أن يُفسرا الشرق ويُترجمه لأبناء قومـه؛ وكانت العلاقة بين المستشرق والشرق بصورة أساسيـة تأويلية، فإذا وقـف المستشرق والباحث أمام حضارة أو منجزة ثقافية نائية لا تكاد تفهم، قلّص الإيهام عن طريق الترجمة، والتصور المتعاطف... بِيد أنَّ المستشرق بقي خارج الشرق الذي بقى نائيا عن الغرب"[2]
بالإضافة إلى أنَّ الغربيين اقتنعوا بأنه لكي يكون هناك تقدما فكرياً وحضارياً واقتصادياً، فلا بد أن يسلك نفس الطريق الذي سلكه أهل الشرق، حيث بدأوا بإنشاء المدارس والمعاهـد والمراكز لتعلم اللغة العربية "ووصل اهتمامهم بعلـوم العرب أنْ قام "فريدريك الثاني" ملك صقلية في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي و"الفونس"ملك قشتالة في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي بترجمة العلوم العربية، ثم اقتدى بهم ملك أوربا،وانتهى الأمر بعقد مؤتمـر في "فينا"عام 1311م برئاسة البابا"كليمان الخامس" وقرر في هذا المؤتمر تأسيس خمس مدارس خاصة في باريس، وبولونيان، وأكسفورد، وسلمكنا، والمدينة البابوبة يدرس فيها العربيـة والعبرانية، والكلدانية،حتى يمكن تخريج مبشرين يستطيعـون تنصير المسلمين واليهـود، أو تشكيكهم في اعتقاداتهم"[3]
ويتجلى مما قُدم أنَّ الاستشراق قد اِنصبت عنايتُه على التراث الشَّرقي كُلّه– قديمه وحديثه بوجه عام، وعَكف بكُلّ ما أُوتي من وسائل مادية ومعنوية على دراسة نُظـم الإسلام بوجـه خاص، إذْ هُو المِفتاح الأساس لفهم عقلية الشرق وأحوالهم؛ وأيقن أنَّ حقيقة الشَّرق هي دراسة اللغة العربية للتعمق والولوج في حضارة العرب،كما قام بترجمة عدد هائل من الكُتب العربـية إلى اللغات المختلفة، وعني بتحقيقها وكشف عن مخطوطاتـها ونظْم فهارسها، وهذا التحقيق والمعالجة في النُّصوص قام بها أسلافُنا الأقدمون في رواية كُتب الحديث واللغـة والشَّعر والأدب والتاريخ في دقة وأمانة وجهد وطلب، وتَبنى المستشرقون إحياء هذه الفنون والعلوم، ونبغ منهم علماء قاموا بنَّشر نفائس جليلـة من التراث العربي"ولولا عناية المستعمرين بإحـياء آثارنا، لما اِنتهت إلينا تلك الدُرر الثمينة التي أخذناها من طبقات الصحابة، وطبقات الحفاظ، ومُعـجم البلدان، ومُعجم الأدباء، ومُعجم ما اُستعجم، وفتوح البلدان، وفِهرست اِبن النديم، ومفاتيـح العلوم، وطبقات الأطباء، وإخبار الحكماء، والمقدسي الاصطخرى، وابن حوقل، والهمـدانى، وشيخ الربوة، وابن جبير، وابن بطوطـة إلى عشرات من الكتب الجغرافية، والرحـلات التي فتحت أمامنا معرفة بلادنا في الماضي، ووقفنا على درجة حضارتنا، ولولا إحياؤهم تاريخ اِبن جبير واِبن الأثير وأبي الفداء واليعقوبى والدينوري والمسعودي وأبى شامة وابن الطقطقى، وحمزة الأصفهاني وأمثالهـم لجهلنا تاريخنا الصحيح في عماية من أمرنا"[4]
أسباب اشتغال المستشرقين بالأدب العربي.
1- صلة هذا الأدب بالوحيين {القرآن ، السنة}
2- أهمية الأدب العربي لدراسة الشخصية العربية وفهمها.
3- أثر الأدب العربي في آداب مختلفة ومنها الآداب الأوربية.
4- منزلة الأدب العربي المرموقة بين الآداب العالمية.
2- المنهج النقدي من منظوراستشراقي:
يعتبر المنهج النقدي من الأمور التي أحياها المستشرقون في أدبنا المعاصر، وذلك نتيجة أثره في الأدب العربي وإثارته لبعض القضايا الأدبية والفنية، ويبدو هذا التأثير جلياً منذ بدء القرن الحالي حتى الآن، ويعتبر النصف الأول من القرن العشرين بحق- العهد الذهبي- لهذا الاتصال، إذ أمد المستشـرقون الأدب بمدد وافر من التعليقات والشروحات، وبعثوا حركة التحديث في جمـيع ميادين المعرفة والعلوم. وقد انبرى العرب إليهم وناقشوا آراءهم ... فمثل هذه الأمور لا يمكن أن تمر بدون التأثير والتأثر معاً.
حُكمه على منهج البحث الأدبي Franz Rosenthal فقد أصدر المستشرق فرنتز روزنتال
والنقد لدى العرب قائلـاً: "غير أن هذا النقد الذي يستهدف إظهار الحسـن الجيد والقبيح الرديئ لا علاقة له بالنقد العلمي الذي يستهدف التمييز بين الصواب والخطأ فهـذا النوع من النقد هو وحده الذي يـدل على وجود روح النقد الحق"[5]
ومن هنا يجب أن نعترف أن ما ناقشه الاستشراق في أدبنا ولغتنا وفكرنا لشيء يستحق الرجوع إليه وقراءته ومراجعته
على كل ميادين الفكر الإنساني وقد وضع Renee Descartes فقد سيطر منهج ديكارت
ديكارت أربع قواعـد رئيسية للمنهج هي: اليقين، التحليل ، التركيب، التحقيق.
اليقين: "ألا أقبل شيئا على أنه حق ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك "مبدأ الشـك الذي يؤدي إلى اليقين.
التحليل: تُقسم المعضلة التي تدرس إلى أجزاء بسيطة على قدر ما تدعو الحاجة إلى حلـها على خير الوجـوه بحيث يجب على المرء أن يرتب وينظم الأشياء التي يريد استكشافها وينـفذ إلى ماهيتها".
التركيب:" أن أسير في أفكاري بنظام بادئاً بأبسط الأمور وأسهلها معرفة كي أتدرج قليلاً حتى أصل إلى معرفة أكثرها تركيباً، بل أن أفـرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها الأخـر بالطبع".
التحقيق:" أن أعمـل في كل الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجـعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من أني لم أغفل شيئا مما يجعل المرء أن يحاول الإحاطة بكل مل يتعلق معـرفته به"[6]
ومن أثار هذا الفكر الفلسفي النقدي على بعض المستشرقين ما نجده عن بعضهم أمثال:
الألماني في "كتابه تاريـخ الأدب Carl Brockelmann المستشرق الألماني كارل بروكلمان
في كتابه "تاريخ الآداب العربـية" Carlo Alfoso Nallino العربي"وعند الايطالي كارل نللينو
في كتابه "تاريخ العرب الأدبي"وعند الروسيR.A.Nicholsonوعند الانجليزي رينو نيكولسن
في كتابه "دراسـات في Ignaij Julianovic Krackovskij أغناطيوس كراتشوفسكي
تاريخ الأدب العربي" ... وغيرهم كثير.
1- كارل بروكلمان 1868/1956م:
رأيه في شعر حسان أنه مبتذل وألفاظه بسيطة وسهلة ويـقول إن سبب انتشار شعر حسان يعود إلى مدح الرسول ص"وأكثر شعر حسان قريب الألفـاظ إلى حد الابتذال،ولا يصل إلى مستوى جد رفيع، وإنما يرجع فضل انتشاره والـتعلق به في الأزمنة المتأخرة إلى غرضه العظيم الأهمية وهو مد النبي"[7]
2- كارل نللينو: 1872-1938م
يخالف نللينو موقف ابن سلام و ابن خلدون وغيره من الطرح القاضـي بضعف القريحة الشعرية والإبداعية في صـدر الإسلام لأنهم اخرصوا ببيان وبلاغـة القرآن الكريم وانشغالهم بالفتوحات الإسلامية، ويرجع بعض ذلك ـ فيما يرى ابن سلام ـ إلى انشـغال العرب بعد مجيء الإسلام بالجهـاد، وقد هلك كثير من الناس مما أدى إلى ضياع كثير من الشعر يقول ابن سلام : » فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغزو فارس والـروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار راجـعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم كثير «[8] ويقول"إن الآداب العربيـة في ذلك العصر زاهية، وأن الشعراء لم ينصرفوا عن أنواع قريضهم ولا الخطباء عن سجـع نثرهم"[9] وكان يعترض على قول الأصمعي" إن الشعر نكد بابه الشر فإذا دخلـه الخير لآن وضعف "ويبرر ذلك بأن البيئة الإسلامـية شجعت قول الشعر في الفتوحـات الإسلاميـة والحماسة.
3- اغناطيوس كراتشكوفسكي:1909-1972م
تكلم عن البديع عند العرب وتساءل هل البديع هو إنتاج عربي أم منقول؟ وأراد كـشف المؤثرات الخارجية التي يمكن أن تكون قد أثرت في وضع ابن المعتز علم البديع، وراح يبحث في إحتمال أن تكون مؤثرات هندية وفارسية، يقول "من الصـعب إيجاد أثار للنفوذ اليونـاني في نشوء البديع العربي فقد ولد هذا بيئة تختلف عن البيئة التي نشأ فيها البديع اليوناني لكل الإختلاف"[10]
3- غوستاف فون غروبناوم 1909-1972م:
يقول إن الفكر اليوناني رائدا للفكـر العربي في الشعر وفي البلاغة واللفة والمعاجم... فهو لا يريد أن ينسب للعرب أية فضيلة أو ابتكار، بل جميع علوم وتراث وفكر العرب منـحول من تراث اليونان، ويقول: "إن الجهات المختلفة تؤثر أوزانا مختلفة، فتأثير الفرس في الفن المتقن عند شعراء مابين النهرين المتقدمين محتمل جداً، وهناك بحران على الأقل - ويحتمل أن يكون ثلاثة أبحر- قد برعت فيهما هذه المجموعة، هما الرمل والمتقارب، وربما كان الخفيف كذلك ، فهذه تبدو متحولة بما يناسب الأحوال العربية عن الأوزان الفارسية (البهلوية)"[11]
آثار المستشرقين في النقد الأدبي الحديث.
شارك الاستشراق بنهضة الأدب العـربي وهذا باعتراف الدارسين والباحثين، وقد اهـتم المستشرقون اهتماماً كبيرة بتأريخ وتاريخ لأدب العربي، حيث قٌسم تاريخ الأدب العربي حسب العصور السياسية المختلة-نظام الحكم- وما قام به القدماء العرب هو تصنيـف الأدباء حسب مواليدهم أو حسب وفاتهم وفي بعض الأحيان حسب أنواع مواضيعهم المختلفة.
فنجد مثلا كارل بروكلمان يقسم كتابه "تاريخ الأدب العربي" إلى خمسة وعصور:1-عصر ما قبل الإسلام حتى نهاية الامويين132هـ 2- عصر الدولة العباسية 3- عصر ما بعد سقـوط بغداد 5- عصر البعث الجديد في القرن الماضي حتى العصر الحاضر.
ويذهب نللينو في كتابه تاريخ الآداب العربية إلى تقسيم تاريـخ الأدب إلى ستة عصور: 1- العصر الجاهلي 2- العصر العربي الإسلامي حتى سقـوط الدولة الأموية750م 3- العصـر العباسي الأول 4- العصر العباسي الثاني 3- عصر الانحطـاط 6- عصر البعث الجديـد.
وكان الدكتور طه حسين في طليعة المتأثرين بهذا المنهج الجديد في الدراسات الأدبية وكان تأثره هذا عميقاً إلى درجة أنه كان كثيراً ما يأخـذ بآراء المستشرقين ويتحمس في الدفاع عنها في مجال إصدار الأحكام حول الأدب العربي القديم وخاصة الجاهلي منه، بل إننا نستطيع أن نقول دون أدنى مبالغة أن طه حسين لم يكن في الحقيقة سوى ثمرة من ثمرات الإستشراق، ومُبـشر بالمبادئ والأصول التي دعا إليها المستشرقون في مجال دراسة الأدب، وعلى صعيد الرؤية العامة للأدب العـربي الكلاسيكي في عصـوره المختلفة. ولعل تأثره بالمستشرق صموئيل مرجليوث David Samuel Margoliouth الذي نفـى أنْ يكـون الشـعر الجاهـلي الذي بين أيدينا
معبراً عن العصر الجاهلي وإنما هو ـ في رأيه ـ نتاج مرحلة تالية لظهور الإسلا م"[12]، السبب في ذلك.
ويؤسس مرجليوث شكه من ناحية أخرى على أساس المماثلة بين لغتي القرآن الكريم والشعـر الجاهلي، متخذاً من هذا التماثل دليلاً على أنَّ ما وصلنا من الشعر الجاهلي إنما هو وليد مرحلة لاحقة لظهور الإسلام يضاف إلى هذا أنَّ مرجليوث يلمح ملاحظات تتجلى في طبيعة القصص الديني والألفاظ الإسلامية التي تشيع في الشعر الجاهلي فضلاً عن خلوه من الآثار الدينية الوثنية.
ومن جملة الآراء التي أبداها الدكتور طه حسين حول الأدب العربي القديم من واقع تأثره· بآراء المستشرقين،القول بأن الجزء الأكبر من الشعر الجاهلي إنما هو في الحقيقة شعر منتحل،وقد أطلق هذه الفكرة قبله المستشرق الإنجليزي مرجليوث قائلاً:"بدأ المسلمـون في حوالي نهاية العصـر الأموي يدعون وجود شعر جاهلي عربي، ولم يكتفوا بذلك حتى زعموا أنهم جمـعوا الجـزء الأعظم منه..."[13].
وقد بلغ من تحمس طه حسين لمناهج المستشرقين في البحث الأدبي، والإستنتاجات التي توصلوا إليها في هذا المجال أنه قال ما نصه: " وكيف نتصور أستاذاً للأدب العربي لا يَلم ولا ينتظر أن يلم بما انتهى إليه الفرنج من النتائج العلمية حين درسوا تاريخ الشرق وآدابه ولغاته المختلفة؟ وإنما يُلْتَمَس العلمُ الآن عـند هؤلاء الناس، ولابد من التماسه عندهم حتى يتاح لنا نحن أن ننهض على أقدامنا، ونطير بأجنحتنا، ونسترد ما غلبنا عليه هؤلاء الناس من علومـنا وآدابنا وتاريخنا... [14]."
هذا إذن هو المذهب أو النظرية الخطرة التي قادت طه حسين إلى أن يصطنع في البحث عن الأدب وتاريخ فنونه، وينتهي به إلى أن يضع علم المتقدمين كله موضع الشك الذي ينتـهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود وهو يريد أن يقلب العلم القديم رأسا على عقب.
Régis Blachère ومن نماذج الاهتمام المتحيز ضد الأدب العربي ما كتبه ريجيس بلاشير
زاعماً أن الأدب العـربي يفتقد عموماً إلى الإبداع والعبقرية وأن "الفعالـية الأدبية، في أدوار عدة، بل في الأدوار الهامة تظل جماعية بمعزل عن كل خلق فردي حقاً، وإذا ما اتفق أن وجدنا خلافاً لذلك فإننا لا نلبث إذا أمعنا النظر أن ندرك أن الظاهرة حركة تجديد أوجدتها فـئة أو جماعة أدبية أوهي صفة خاصة إقليمية ….وعلى الجملة فالأدب العربي – وقد نلحق به آداب الشرق الأدنى-لم يعرف إلاّ في ومضات خاطفة، تلك الحاجة المرهقة الخصبة للتجديد، والتميز، والتعارض"[15]
ولا يمكننا أن نطلب من الغير أن يهتم بأدبنا الحديث ولكننا نرى أن هذا الاهتمام يميل إلى Dr.G.Lebon التركيز على جوانب معينة من أدبنا العربي، فهاهو المستشرق غوستاف لوبون
في كتابه حضارة العرب يعترف بموروث العرب وبمكانية بين الآداب العالمية لأن الأدب يشكل أحد أفضل السُبل للتقارب بين الشعوب،لأننا نستطيع أن نتلمس من خلال ما ينتجه شعب من أدب مَلامح الوجه الحقيقي لهذا الشعـب. ويقول: ما عجز عنه الإغريق والفرس والرومان عنه قدر عليه العرب بسرعة، ومن غير اكراه....ولا نرى في التاريخ أمة ذات تأثير بارز كالعرب، فجميع العرب التي اتصل العرب بهم اعتنقت حضارتهم... ولم يتجل تأثير العرب في الشرق في الديانة واللغة والفنون وحدها،بل يتجلى في ثقافته العلمية أيضا ... وإن أوربا مدينة للعـرب بحضارتها ... وترى تأثيرهم العلمي والأدبي والخلقي فيه عظيما"[16]
الخاتمة:
ما أثاره الفكر الاستشراقي من استثارة لتراث العرب، جعل الرد هو السبيل الوحيد لإبطال بعض المزاعم وتصويب بعضها، وهذا ما انعكس على الأدب، حيث أينع ثمره وطفق يلوح إلى الوجود والعالمية.
وانكب زمرة من الباحثين أمثال جمال الدين الأفغاني وقاسم أمين محمد عبده مصطفى الرافعـي محمد حسين هيكل، محمد كرد على ، العقاد... لهذا السيل الجارف ملتزمين بخطة رسم نظريتها العالم الفيلسوف أبو نصر الفارابي·لإحكام أي صناعة يجب أن تتوافر ثلاث أركان:
1-استيفاء معرفة أصولها 2- القوة على استنباط ما يلزم في تلك الأصول من موجودات تلك الصناعة. 3- القوة على تلقى المغالطات الواردة عليه في ذلك العلم، وعلى سبر آراء من سواه من الناظرين فيه، وكشف الصواب من سوء أقاويلهم فيها، وإصلاح الخلل على من اختل رأيه منهم"[17]
فيجب الاهتمام بالإصدارات الأدبية واللغوية والنقدية للمستشرقين والمفكرين الغربيين ودراستها وتفحصها، وإن أمكن الرد عليها، فنحن أولى من يُعرِف الأخر لغتنا وأدبنا وكل تراثنا ومن حقنا أن نَعرف ما يُكتب عنا.
وفي الأخير نعتقد أننا قدمنا بإيجاز صورة مقتضبة عن أثر بعض المستشرقين في الأدب العربي، حيث اتضح جليا أن المدرسة الإستشـراقية لعبت دورا كبيرا في أثر النهضة العربية الحديثـة وساعده مساعدة فعالة في القيام بدراسة الأدب ونشر أرائه وبحث أفكاره...
الهوامش:
- ابن خلدون مقدمة، المكتبة التجارية الكبرى ، ص 554.[1]
- سعيد، ادوارد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، ط6، لبنان، دار الأبحاث العربية ،2003،ص 231.[2]
- أحمد، سمايلوفتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي، ط1،دار الفكر العربي،1998، ص74-75[3]
- محمد، كرد على، أثر المستعمرين من علماء المشرقيات،ج1،م1927.8،ص24[4]
- فرنز رزنتالل، مناهج العلمار المسلمين في البحث العلمي، مراجعة وليد عرفات، دار الثقافة ، بيروت، 1961،ص142. [5]
- يوسف أكرم، تاريخ الفلسفة الحديثة دار المعارف، 1962، ص96/99.[6]
- المرجع نفسه،ص 153.[7]
ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود شاكر،دار المعارف، القاهرة،1952، ج1/ 26 . -[8]
- كارل نللينو، تاريخ الآداب العربية، دار المعارف ، مصر،1970.ص 104. [9]
- أغناطيوس كراتشكوفسكي، دراسات في تاريخ الأدب العربي، موسكو، 1965، ص 12.[10]
غوستاف فون غروبناوم ،دارسات في الأدب العربي، تر: إحسان عباس ، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1962، ص 122/123. -[11]
- عبد الرحمن بدوي، دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي،دار العلم للملايين، بيروت،1986.،[12]
·صدر كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين سنة 1926 ثم في سنة 1927 أصدر المؤلف طبعة منقحة من الكتاب بعنوان (في الأدب الجاهلي) وقد أحدث كتاب طه حسين رجة عنيفة في الساحة الثقافية والفكرية العربية أثارت الكثير من العلماء والباحثين والكتاب فتصدوا للرد عليه ... ومن ضمن الكتب التي نشرت في هذا الموضوع : كتاب "نقد كتاب في الشعر الجاهلي" للأستاذ محمد فريد وجدي وكتاب "محاضرات في بيان الأخطاء العلمية والتاريخية التي اشتمل عليها كتاب في شعر الجاهلي للأستاذ الشيخ محمد الخضري وكتاب الأستاذ محمد العمراوي "النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي وكتاب "تحت راية القرآن" للأستاذ مصطفى صادق الرافعي.
- ديفيد صمويل مرجوليوث، نشأة الشعر العربي، تر. عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، لبنان ط1/ 1979 ص90، 91.[13]
15- طه حسين،في الأدب الجاهلي،لجنة التأليف والترجمة والنشر،القاهرة، ،ط 3،1352هـ-1933م،ص11
- ريجيس بلاشير، تاريخ الأدب العربي، ص164. 16
17غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة، عادل زعيتر،عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1948، ص 625/674.
* أبو نصر محمد الفارابي (ولد عام 260 هـ/874 م في فاراب وهي مدينة في بلاد ما وراء النهر وهي جزء مما يعرف اليوم بكازاخستان وتوفي عام 339 هـ/950 م) فيلسوف مسلم أتقن العلوم الحكمية، وبرع في العلوم الرياضية، زكي النفس، قوي الذكاء، متجنباً عن الدنيا، مقتنعاً منها بما يقوم بأوده، يسير سيرة الفلاسفة المتقدمين، وكانت له قوة في صناعة الطب وعلم بالأمور الكلية منها، ولم يباشر أعمالها، ولا حاول جزئياتها.
18- أبو نصر الفارابي، الموسيقى الكبير،تح: غطاس عبد الملك خشبة، مراجعة محمود أحمد الحفني، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة ، ص37.
مراجع البحث:
ابن خلدون مقدمة، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، بدون تاريخ.
أبو نصر الفارابي، الموسيقى الكبير،تح: غطاس عبد الملك خشبة، مراجعة محمود أحمد الحفني، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة.
أحمد، سمايلوفتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي، ط1،دار الفكر العربي،1998
ديفيد صمويل مرجوليوث، نشأة الشعر العربي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، لبنان ط1/ 1979
ريجيس بلاشير، تاريخ الأدب العربي. ، تر. إبراهيم الكيلاني،الدار التونسية للنشر، تونس 1986 .
كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي،ترجمة عبد الحليم النجار دار المعارف، مصر، 1962
كارل نللينو، تاريخ الآداب العربية، دار المعارف ، مصر،1970
سعيد، ادوارد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، ط6، لبنان، دار الأبحاث العربية ،2003
غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة، عادل زعيتر،عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1948
- فرنز روتنزال، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي تر.أنيس فريحة،مراجعة وليد عرفات، دار الثقافة ، بيروت، 1961
- شوقي أبو خليل، الإسلام في قفص الاتهام، الجزائر، دار الفكر، 1992.
ساسي سالم الحاج، الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدارسـات الإسلامية ،ج1،ج2، طرابلس 1997.