ربما لو كان شابًا أكثر، ربما لو لم يكن مهذبًا جدًا ولا يجري اللوم على لسانه، ربما لو لم يكن قانطًا بعد طول معاناة من الأنظمة العربية: لصاح بالمصريين أن أدّوا إلي حقي، وردوا إلى الشعب الليبي دَينه!

لقد تقطّع قلبي وأنا أرى ريئس الوزراء الليبي الأسبق المهندس مصطفى بن حليم ابن التسعين عامًا وهو يطلب النجدة والمساعدة من أوباما ولم يطلبها من مصر أو الجزائر. لماذا لم يصرخ بالجزائريين: هل فكّرتم يومًا كيف كانت تصلكم الأسلحة خلال سنوات الثورة كلها من عام 1954 وحتى عام 1961، وعن طريق من؟ من الذي أمّن لتلك الأسلحة النقل، والتغطية والأمان بحيث لم تكشف ولم تتأخر شحنة واحدة خلال سبع سنين. لماذا لا ترد الجزائر بعض ذلك السلاح للشعب الليبي ليدافع عن نفسه؟

لماذا لا يصرخ بالمصريين: حميت أرضكم وسماءكم فهل تحمون أرضي وسمائي اليوم؟

 

ولا بد لنا اليوم من تذكّر الدور العظيم لليبيا في حماية مصر من الغرب عام 1956 ، وتجميد بل وسجن القواعد العسكرية الغربية في ليبيا خلال أزمة السويس كلها، ورفض مرور أي قوات عسكرية غربية عبر الأراضي الليبية. وإجبار قوى العدوان على إلغاء الخطة 700 المعروفة بخطة هاميلكار المتمثلة في هجوم بري فرنسي- انكليزي مشترك عبر ليبيا لاحتلال الاسكندية والقاهرة.

بدأت نذر الأزمة تلوح بين جمال عبد الناصر والغرب عام 1956 ووصلت إلى ذروتها بتأميم قناة السويس. فجن جنون الدول المالكة لأسهم القناة والمتصرفة فيها وهي فرنسا وبريطانيا وحشدت الرأي العام العالمي مؤيدة بأمريكا وإسرائيل. أمريكا كانت تكره مصر لتصديها لمشروع ملء الفراغ الذي اخترعه أيزنهاور، ووقوفها ضد الأحلاف الغربية في المنطقة العربية. وإسرائيل راعها بناء مصر لجيشها وشراؤها لأسلحة حديثة من روسيا. فكانت الدعوة للتحريض ضد مصر تضج بها كل دوائر الغرب.

وكان يحكم ليبيا في تلك الفترة الملك العابد الزاهد إدريس السنوسي. وكان هناك توافق ورضا بين مكونات الدولة كلها: الحكومة والشعب والملك. وكانت ليبيا فقيرة جدًا لما يكتشف بها النفط بعد، تؤجر أراضيها قواعد عسكرية للقوى الكبرى لتعتاش من ريع إيجار تلك القواعد، مع وضع شرط واضح بأن ليبيا لا تسمح باستخدام أراضيها ضد أي بلد عربي مهما كانت الظروف. فكانت هناك قاعدة العظم البريطانية وقاعدة هويلس الأمريكية وكانت يومها أكبر قاعدة خارج الأراضي الأمريكية. وقد أدرك رئيس الوزراء مصطفى بن حليم ما ستؤول إليه الأحوال، واستبق الأحداث بالإعلان في البرلمان أن ليبيا لن تسمح بأي عدوان على مصر من أراضيها. واستدعى سفراء الدول المالكة للقواعد وأنذرهم بأنه في حال استخدام هذه القواعد ضدمصر فإنها سوف تواجه معارضة مسلحة من الجيش والمقاومة الشعبية الليبية إضافة لقطع الماء والكهرباء عنها. وليجعل لتهديداته مصداقية أوعز لشيوخ القبائل وزعماء اتحاد العمال وقادة الشرطة ووجهاء المدن بتحريض الناس على مضايقة عناصر القوات الأجنبية ومعاملتهم بعدائية. فلما جاءه السفير البريطاني يشكتي ويطالب بالتزامات ليبيا تجاه هذه القواعد، قال له ابن حليم: وماذا يمكن أن أفعل لك، تريدون ضرب مصر، ونصف الشعب الليبي موجود في مصر، هاجروا إليها أيام مقاومة الطليان. فهل يمكن أن يسكت الناس هنا على ضرب أهليهم هناك. ولن أستطيع أن أضمن لك سلامة جنود القاعدة أبدًا إذا بدأت العمليات الحربية. فسأله السفير وما العمل إذن؟ فقال قاعدتكم هذه يجب أن تجمد نشاطها كلية بشكل يقنع كل الناس، فلا طائرة تقلع ولا طائرة تهبط، ولا سفينة تجيء ولا سفينة تروح، وكل جندي بريطاني يسير في حماية شرطي ليبي! فوافق السفير البرطاني تحت ضغط الحوادث اليومية الكثيرة التي كانت تقع لجنوده.

أما على الصعيد السياسي فكان أبرز دور لعبته ليبيا لمساندة مصر فكان تحييد تركيا وإبعادها عن معسكر الدول الغربية المنادية بمعاقبة مصر. فسافر الملك إدريس ورئيس وزرائه مصطفى ابن حليم لتركيا، وحاول ابن حليم كسب تركيا لصف مصر، فمانعت تركيا أي محاولة لتليين موقفها مذكّرة بالكثير من المواقف العدائية المصرية تجاهها وأبرزها موقفها من أزمة قبرص. عندها توجه ابن حليم لرئيس الوزراء التركي عدنان مندريس قائلا: جئتك باسم الملك إدريس السنوسي ملك ليبيا، مذكرًا بأنّا ومحبة منا لتركيا، وتقديرًا للرابطة الأسلامية والعثمانية التي تجمعنا، استجبنا لطلب تركيا بإعلان الحرب على بريطانيا في الحرب العالمية الأولى وهاجمنا قوات الانكليز في مصر بينما كنا نخوض حربنا ضد إيطاليا، فوقعنا بين نارين وعرضنا أرواحنا واستقلالنا للمخاطر لأجلكم وسالت دماؤنا أنهارًا، ونحن بحق ذلك نطلب منكم أن تقفوا بجانب مصر، وإن لم تستطيعوا فلا تقفوا ضدها أبداً. فسالت الدموع على خدي عدنان مندريس وقال له: لك ما تريد. وتصرفت تركيا في كل المحافل الدولية على هذا الأساس.

وكان الجيش الليبي يعد يومها ثلاثة آلاف رجل فقط، فقالت له حكومته: لا تسمحوا للانكليز أن يعبروا لمصر إلا بعد أن يجتازوا جثة أخر رجل فيكم. لا تجعلوا التاريخ يسجل أن مصر طعنت من جهة ليبيا وفيكم عرق واحد ينبض، لا تلطخوا تاريخ ليبيا بالعار! فبقيت مصر محمية من الغرب وتفرغت لمحاربة الغزاة القادمين من البحر ومن الشرق.

هذا باختصار دين مصر تجاه الشعب الليبي، فليبيا حمت مصر من قواعد الانكليز وجيوش فرنسا، فهل تقوم مصر اليوم بحماية ثوار ليبيا من طيران وجحافل الطاغية المجنون، وتساعدهم بما يمكنهم من التخلص منه.

وإذا كانت كل الحكومات العسكرية في مصر وليبيا والجزائر تكره تمجيد حكم ملكي ليبي عربي إسلامي معتدل، فهل يغيب عن المجلس العسكري الأعلى في مصر حقيقة عدم استخدام بريطانيا لقواعدها في ليبا ضد مصر ، وعدم تعرض مصر لأي سوء من جهة الغرب خلال العدوان الثلاثي عام 1956؟ وما يرتبه ذلك الدين على مصر؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية