أن تكون مواطناً بشحمِهِ ودمِهِ ونبضِهِ يعني أن تكون إنساناً له وجودٌ وكيانٌ ، وله دور فاعِلٌ ومنتج . له ذاتُهُ وشخصيته وانتماؤه. وكلُّ هذه الصفاتِ يحضنها وعْيه.
أن تكون مواطناً يعني أن تملك جناحين قوييّن ، بهما تحلّق في فضاءات الوطن حيث الكبرياءُ والعزَّةُ والمَنَعَةُ . ويعني هذا أنّك تقرأ أسفارَه الخالدة بإحساسكَ وقلبك وعقلك قبل عينيك ، ولذلك تراه معك في كلِّ نبضة قلب.
إذا لزمك إحساسُ المواطنة، وهو إحساسٌ إنسانيٌّ شفّافٌ ومتينُ الارتباط بالأنقى والأبقى ، يعني أنك استملكْتَ مساحاتٍ جميلةً وغنيَّةً من الأرض والسماء.
وما هذا الإحساسُ إلاّ نبضُ فؤادٍ ، يطيرُ بأجنحة الحبِّ ، ويحلِّق إلى قمم البقاء والثبات التي تتفوق على كلِّ ثروةٍ مجلوبةٍ على حساب الوطن والمواطَنة .
من قال إنّ الوطن حجارة صمّاء فحسب أخطأ كثيراً واقتربَ من الكفر ، وخان ذاكرته ودمهُ ، وتخلّى عن كلِّ مكوّنات إنسانيته . هذه الإنسانية ترتقي وترقى بشرف الانتماء إلى الهواء والماء والتراب والقيم والمثل. وما هذه إلاّ ذاك العقد الثمين الذي يزّين المرءُ نفسه بها ، بل هي الطينة التي يُجْبَلُ بها ، ويتماسَك ليشكِّلَ وحدته وتناغمه.
كلمة الوطن أكبرُ من قواميس اللغة ، وأعظم من ملاحم الشعراء لأنه المفردات الصعبة والجزلة، ولأنه الجملُ المتاخمةُ لسهولِ الحبِّ ومروجه، ولأنه سنابل العشق والأملِ ولأنه الوطن.
فمن وزن وطنه بالمال أو بالمصلحة الخاصة البعيدةِ عن إنسانيته خفَّ وزنه بمعايير المواطنة. فالوطن أثمنُ وأعظم من هذه الشركات والمؤسساتِ الخاوية من نبض المواطنة. والوطن أثقل بما يمنحنا من حبٍّ ودفء وأمان واستقرار فاحتضان الوطنِ والالتحامُ بحرمهِ المقدّسِ أربحُ من كلِّ التجارات الخاسرة ، فحبُّه والارتباط به سيبقى الكفَّةَ الراجحة ، والشعاع المضيء لتلك النفوس المظلمةِ والظالمةِ نفسها، فقد استعبَدها المال واستبدَّت بها (أناها) الطاغيةُ والأنانيّة.
الإحساسُ بعظمة الوطنِ وجلالِهِ أمرٌ عظيمٌ، وقادرٌ على تعقيم النفسِ الآثمة. فالوطن ذاك المنهل النقيّ الصافي. فاقتربْ منه يفرشْ لك سندسَ ظلِّهِ وفيء حبّه. حادثْهُ كحبيب مقرَّبٍ إلى القلب والروحِ تجدْ فيض حبّه وهباته.
صورة الوطنِ المطبوعةُ في أعماق الإنسان المخلص أعظمُ وأبهى من كلِّ صور الأرض ومغرياتها . عظيم بمائِهِ وآثاره وتراثه، رائعٌ بغضبه ورضاه. ساحرٌ بقربه وبعدِه . معك دائماً ، لأنّه الأمّ والأبُ أبعْدَ هذا ترضى على نفسك أنْ تشكِّلَ ممالك عشق كاذبةً وواهية؟ هذه الممالكُ التي تقسو على روحك فتبعدُك عن نفسك وذاتك دون الآخرين.
تصوّرْ عصفوراً بلا أجنحةٍ بلا سماء .. تخيَّلْ سمكاً بلا ماءٍ وبحارٍ . فماذا يبقى للمرءِ إن قَبِلَ على نفسِه العقوقَ ممَّنْ له الفضل عليه . فمَنْ يفضِّلُ إقامةً في غير وطنهِ ؟ ومن يسعى لإدارة ظهرِهِ عن حقِّ المواطنةِ في المحن والملمّات ..؟
لاشكَّ أنه مصاب بمرض خبيث ليسَ السرطانَ كما تتصوَّرون بل هو أشدُّ وطأة. إنه مرضُ قلة الوفاء والانتماء، هؤلاء المرضى على قلَّتهم تأثّروا بحليب اصطناعيٍّ مستورد، لم يرضعوه من أثداء الأرض وتراب الوطن.. هؤلاء الحمقى مأسورون لغوايات العقوق الآسرة ، فأصيبوا بمرض عدم القدرة والتمييز بين الوطنِ والظروفِ المحيطة، وبين الوطن والرجالِ والانتماءات.
هذا وطنك يمشي على جمر الوشايات، ويتكئ على جحيم المنافقين ، فيلعق سمَّ الأدعياء . ورغم هذا نراه صافياً ناصعاً كليلة ثلجيّة بيضاء، تنقّيه العواصف ، وتقوّيه النوايا الحسنة ليبقى الصفحةَ البيضاءَ الناصعةَ للسالكين والكاتبين حروف المستقبل المشرق بالمواطنة البعيدة عن النشاز، وعن أيّة معزوفةِ تمزّق روح شعبه.
فامددْ يديك مصافحاً أغصان أشجارِهِ، وذُقْ جُلَّ ثمارِهِ، ابسطْ مائدةَ الوفاق الوطني، اقتربْ إلى هذه المائدة بشرف وإخلاص، أضِفْ إليها من حبّك حبّاً ووئاماً..
هلاّ تغفرُ لنفسك هذا الهراءَ السائدَ، وهذا الانحرافَ وقد صبغ بعض جوانب حياتنا. لحبِّ الوطنِ نكهة الإيمان، ومَصْلُ المحبّة والوجود الإنساني. وهذه النكهة هي الأسمى والأبقى "حبُّ الوطن من الإيمان".
حبُّ الوطنِ فوق كلّ اعتبار وانتماء، والانتماء للوطنِ أمتَنُ من كلِّ انتماء . فَعُدْ إلى نفسِك وفطرتك أيُّها المتورِّم بمرض الذات والأحلام السرابية .. فالتعلّقُ بنسمات الوطنِ لا يحتاج إلى برهان أو شهادة حسن سلوك وغالباً ما تكون مشوَّهة ومزَوّرة لأن حبَّ الوطن ممارسة إنسانية حقيقية. هذه الممارسةُ لا تقيّدها النزوات والحسابات الخاصة والإقامة في المنفى والتعامل بالدولار، والنومُ في أحضانِ العدوّ الذي يصرف علينا ويأوينا...
هي دعوةٌ للمصالحةِ مع الذاتِ ومع الآخر وهي دعوة إلى مائدة المواطنة الصالحة البعيدة عن الرياء والمصالح الشخصية، فالوطن ومائدته ما عادت تحتمل إلاّ الحبَّ والإخلاص.
وطني وفي الأحداقِ سرُّ مواجعي
أنت المنى، كم كان حبُّكَ شاغلي
تَعِسَ الوشاةُ فجلُّهُمْ متأمْرِكٌ
قبِلَ الهوانَ، وعاشَ عيشَ النادِلِ