إليك أيها الإنسان حيثما وجدت، ومهما كانت جنسيتك أو ديانتك. إليك أيها المسلم خاصة وأنت تؤمن بالله واليوم الآخر، إليك هذه الكلمات التي فجّرها واقعنا المرير الذي نعيشه! إليك وقد أهملت الدين العظيم الذي بثّ تعاليمه رسولنا الكريم سيد الإنسانية والبشرية جمعاء محمد -عليه الصلاة والسلام-. إليك وقد تغافلت وربما أنكرت قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} (سورة إبراهيم). إليك وقد حللت ما حّرمه الله على نفسه، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله تبارك وتعالى: "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا" (رواه مسلم وغيره). إليك وقد غفلت أو تغافلت عن أبسط مشاعر الإنسانية، وحينما وأدتَ الفطرة التي تدعو دائمًا إلى كل خير وتنفر من كل شر وتنبذ كل عنف وتحرم كل ظلم. إليك حينما استولت عليك الشهوة وتبلدت مشاعرك وتحجّر قلبك ومات ضميرك، فهان عليك ظلم أخيك الإنسان. لماذا تتغافل وتنكر حقوق الآخرين وتسلبها بكل وقاحة وتستغفل أصحابها بكل جبروت واستعلاء؟ لماذا تتحدى كل القيم والأعراف والمشاعر؟ لماذا تنكر وتجحد أقرب الحقوق إليك وأمسّها إلى حاجتك؟ أليس من حقك أن تعامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوك به! كيف تقبل الظلم لغيرك وأنت لا تقبله لنفسك! ألا تحتاج إلى رحمة الآخرين بك وشفقتهم عليك إذا أخطأت يوما أو ارتبكت بحق أحدهم مظلمة، أتظن نفسك غنيًا عن الآخرين وفوق حاجتهم ولن تحتاج إليهم أبدا؟ أتنكر أنك كما تدين تدان؟
أما سمعت بقصة الرجل الذي كان عنده والد كبير لا يستطيع خدمة نفسه، فتأفف الرجل من خدمة والده ومن القيام بأمره ففكّر في قتله، فأخذه إلى الصحراء ليذبحه، فلما وصل إلى صخرة أنزله جانبها، فقال الوالد: ماذا تريد أن تفعل بي يا بني؟ فقال: أريد أن أذبحك فقد أتعبتني، فقال الوالد: إن شئت ذبحي فخذني إلى صخرة أخرى، فقد كنت عاقا قبلك وهنا ذبحت والدي. أصبحنا نعيش في عالم يضج بالقسوة حيثما اتجهنا، وكأننا في غابة وحوش لا تعرف الرحمة والشفقة! أصبحنا -وعلى مدار الساعة- على موعد مع الظلم بكل أشكاله وصوره. تصدم أسماعنا وتفزع قلوبنا ونحن نرى ونسمع الفواجع تلو الأخرى، من منا لم يسمع أو يقرأ أو شاهد بأم عينه أبًا قتل أبناءه وهو من الواجب والطبيعي أن يكون الحامي لهم؟ أو أمّا تعطف على أبناء غيرها وتتودد لهم في حين يرى أبناؤها منها كل قسوة وكل ظلم وكل حقد؟ أو ولدًا عاقًا لوالديه بكل ما في الكلمة من معان بشعة وما أكثر العقوق! أو شيخًا يبدو لكل ممن يتعامل معه أنه بريء من دم يوسف وقد فتك عرضه بنفسه وهو الذي من أدنى حقوق الأبناء عليه أن يكون مصدر الأمان والمدافع عن شرفه؟ بل من منا لم يسمع أو يقرأ عن إمام سالب للأمانة التي أمّنه بها من ائتم به في بيت الله فضيّع ثقة الناس به وبغيره؟ ما السبب الذي يجعل مثل هؤلاء أن يتباروا بالغدر والظلم والتفنن به بكل بشاعة وقذارة؟! قد علّموا الذئب الخيانةَ والجحود فهل يلين لهم فؤادٌ؟ أو تسيل لهم دموعٌ لا يخالطها رياء؟ لماذا يصيبنا الغدر والظلم ممن نتوهّم أنهم قدوة لنا في الهيئة أو السلوك أو الأقوال؟ لماذا هذا التحايل على القيم والدين والأخلاق؟ لماذا يخادع الإنسان ربه ونفسه؟ أغايته المال وحده وبغض النظر عمن يكون تحت نعاله أو تحت خنجره؟ أيركض ويلهث خلف سراب؟ أم من أجل شيء حقير زائل؟ وهل يكتفي بعد ذلك بما تجنيه جرائمه؟ وهل يكون المال بديلا عن قناعته ورضاه بما هو مقسوم له؟ وهل سترتاح نفسه إذا غرق بالمال؟ إنه بلا شك سيختنق في أوحال جشعه. ترى ماذا حلّ بنا؟ ماذا كان مصير قارون وهل كانت كنوزه وأمواله التي لا تعدّ ولا تحصى مانعة له من الموت؟ بل في لمحة خاطفة ابتلعته الأرض وابتلعت داره وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال {فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} (سورة القصص).
بدأنا في هذا الزمن الغريب نشك بكل شيء فانعدمت الثقة، فبمن نثق بعد اليوم؟ وقد نهشنا ممن يتظاهرون بالتقوى وكنا نظن أنهم قدوتنا لكل صلاح، فإذا بهم يصنعون كل مشين، فأين يا ترى ذهب الجلال والهيبة؟ يتظاهرون بالطيبة وهم أقسى المخلوقات، يتظاهرون بالدين وهم أكفر الناس بحقوق الله وحقوق العباد، سلبوا حقوق الآخرين، وهم يظنون أنهم فازوا بالكثير فبئس ما يربحون! فرحوا بالغنيمة الزائلة وكأنهم لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر. أرادوا التمتع بالدنيا ونسوا اليوم الآخر وجنته وناره، كأنهم لم يعلموا أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فقد كان الإمام ابن حجر غنيًا، وكان يركب يومًا جوادًا أصيلاً فاعترض طريقه يهودي فقير يعمل في مهنة حقيرة هي بيع الزيت المغلي، ويعيش على الكفاف، قال اليهودي يا إمام: "إن رسولكم يقول الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن، فأين هي تلك الجنة التي أعيش أنا فيها، وأين ذلك السجن الذي تعيش أنت فيه؟" فأجاب الإمام ابن حجر: "لو علمت ما أعدّ الله للمؤمنين في الجنة من نعيم لعلمت أنني أعيش الآن في سجن، ولو علمت ما أعده الله للكافرين من عذاب في جهنم لعلمت أنك تعيش الآن في الجنة"لقد كانت مكاسبهم دنيوية، فهم لأجل الدنيا يفرّطون بالآخرة والفوز بما هو دائم، أولم تراهم لا يؤمنون بالآخرة؟ فكيف سيعملون لها؟ وربما يظنون أنهم مخلدون على الأرض لن تطالهم سهام الموت ولا ينتظرهم حساب أو عقاب! ألم يسمعوا بقصة الذي مات كما يموت الحمار! لقد تحدثت الصحف أنه في الخمسينات الميلادية وفي إحدى الكليات بدولة عربية وقف أحد الطلبة ممسكًا بساعته محدقًا نظره فيها، وهو يصرخ قائلاً: "إن كان الله موجودًا فليمتني إذن بعد ساعة"وكان مشهدًا عجيبًا شهده جمهرة من الطلاب والأساتذة ومرت الدقائق عجلى، وحين أتمت الساعة دقائقها انتفض الطالب بزهوٍ وتحد وهو يقول لزملائه: "أرأيتم لو كان الله موجودًا لأماتني وانصرف الطلاب وفيهم من وسوس له الشيطان، وفيهم من قال: "إن الله أمهله لحكمة"، وفيهم من هزّ رأسه وسخر منه! أما الشاب المذكور، فذهب إلى أهله مسرورًا، خرج يتمطى وكأنه أثبت بدليل عقلي لم يسبقه إليه أحد أن الله –سبحانه– غير موجود، وأن الإنسان خلق هملاً، لا يعرف له ربًّا وليس له معاد أو حساب! ودخل منزله فإذا والدته قد أعدّت مائدة الغداء، وإذا والده قد أخذ مكانه على المائدة ينتظره، فهرع الولد مسرعًا إلى المغسلة ووقف أمامها يغسل وجهه ويديه ثم ينشفهما بالمنديل، وبينما هو كذلك إذ به يسقط على الأرض جثة لا حراك بها! نعم لقد سقط ميتًا، وأثبت الطبيب في تقريره أن موتته كانت بسبب الماء الذي دخل في أذنه! وفي ذلك قال الدكتور عبد الرزاق نوفل –رحمه الله-: "أبى الله إلا أن يموت كما يموت الحمار!"والمعروف علميًا أن الحمار والحصان إذا دخل الماء في أذن أحدهما مات من ساعته.
ألا ينظرون حولهم ويرون كم من الأرواح تزهق كل يوم؟ أم ليس لهم عيون فيرون بها وليس لهم قلوب يفزعون بها؟ والغرابة أشد الغرابة أننا لا نتعظ بما يجري حولنا ولا ما جرى لمن قبلنا، فماذا كان مصير الطغاة والمستبدين في كل عصر؟ ألم يتلوا آيات الله ويتعظوا من قصصه؟ ألم يقرأوا التاريخ ويعتبروا من حوادثه! كم تجبّر فرعون وعتا وقد استضعف بني إسرائيل وجعل يذبّح أبناءهم لأجل ذبح موسى؟ وقد وصل إلى مسامع فرعون أنه سيكون هلاك مصر على يديه، فكان يذبح كل طفل يولد لبني إسرائيل، فماذا كان مصيره إلا الطوفان والجراد والقمل والضفادع، كما ورد في القران الكريم {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين} (سورة الأعراف)، ألم يتلوا آيات الله في قصة أصحاب الأخدود، قال تعالى: {قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} (البروج)، ارتدت النار التي أرادها الظالمون للذين آمنوا بربهم عليهم فأحرقتهم.
وفي التاريخ عبرٌ تترى، وفيها ما يردع النفس الجشعة التي يستهويها الاستحواذ على كل أموال الناس بحق وبغير حق، ومازالت قصة قارون فيها عبرة لكل من معتبر، قارون الذي لم تنفعه كنوزه من نهايته العادلة، أن خسفت به الأرض هو ومن معه، إزاء بغيه على قوم موسى عليه السلام. ويروى أن رجلا مقطوع اليد من الكتف ينادي: من رآني فلا يظلمنّ أحدا، فقدمت إليه وقلت: يا أخي ما قصتك؟ فقال: يا أخي قصة عجيبة، وذلك أنّي كنت من أعوان الظلمة، فرأيت يومًا صيادًا قد اصطاد سمكة كبيرة فأعجبتني، فجئت إليه فقلت: أعطني هذه السمكة، فقال: لا أعطيكها، أنا آخذ بثمنها قوتًا لعيالي فضربته وأخذتها من قهرًا، ومضيت بها. قال: فبينما أنا أمشي بها حاملها إذ عضت على إبهامي عضة قوية، فلما جئت بها إلى بيتي وألقيتها من يدي ضربت عليّ إبهامي وآلمتني ألمًا شديدًا، حتى لم أنم من شدة الوجع والألم، وورمت يدي، فلما أصبحت أتيت الطبيب وشكوت إليه الألم، فقال: هذه بدء الأكلة، اقطعها وإلا تقطع يدك، فقطعت إبهامي، ثم ضربت عليّ يدي فلم أطق النوم ولا القرار من شدة الألم. فقيل لي: اقطع كفك فقطعته، وانتشر الألم على الساعد، وآلمني ألمًا شديدًا، ولم أطق القرار وجعلت أستغيث من شدة الألم، فقيل لي: اقطعها إلى المرفق، فقطعتها، فانتشر الألم إلى العضد، وضربت عليّ عضدي أشد من الألم الأول، فقيل: اقطع يدك من كتفك، وإلا سرى إلى جسدك كله، فقطعتها. فقال لي بعض الناس: ما سبب ألمك؟ فذكرت قصة السمكة، فقال لي: لو كنت رجعت في أول ما أصابك إلى صاحب السمكة واستحللت منه وأرضيته لما قطعت من أعضائك عضوًا، فاذهب الآن إليه واطلب رضاه قبل أن يصل الألم إلى باقي جسدك. قال: فلم أزل أطلبه في البلاد حتى وجدته فوقعت على رجليه أقبلها وأبكي وقلت له: يا سيدي سألتك بالله ألا عفوت عني، فقال: ومن أنت؟ قلت: أنا الذي أخذت منك السمكة غصبًا، وذكرت له ما جرى، وأريته يدي، فبكى حين رآها، ثم قال: يا أخي قد أحللتك منها لما قد رأيته بك من هذا البلاء، قلت: يا سيدي بالله هل كنت قد دعوت عليّ لما أخذتها؟ قال: نعم، قلت: اللهم إن هذا تقّوى عليّ بقوته على ضعفي على ما رزقتني ظلمًا فأرني قدرتك فيه. فقلت: يا سيدي قد أراك الله قدرته فيّ وأنا قد تبت إلى الله عز وجل عما كنت عليه من خدمة الظّلمة، ولن أعود إليه أبدًا. نعم إنها دعوة المظلوم مفتوح لها باب السماء لا ترد، فلم نتغافل عن ذلك وإن لم تكن العقوبة حاصلة في الدنيا فهي مؤجلة إلى يوم الحساب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال -رسول الله صلى الله عليه- وسلم: "ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب، وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" (رواه أحمد وغيره). فألا نخشى دعوة المظلوم إذا دعا من لا ترد دعوته؟ ألا يعلم الجبابرة الذين يظنون أنهم الأقوى بلا منازع، فاستحلوا المحارم وبطشوا بكل مسكين، أن هناك ربًّا سيسلّط عليهم أدنى المخلوقات وأتفهها؟ ذات يوم وقع الذباب على وجه المنصور فذبّه فعاد حتى أضجره، وكان عنده جعفر بن محمد في ذلك الوقت. فقال له المنصور: يا أبا عبد الله لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به الجبابرة، فسكت المنصور.
صفحات التاريخ تعج بكل العبر، وفيها ما يبشّر كل من تعرض للظلم أن الله ناصر المظلومين، لا يترك أولياءه وينتقم لهم، فيروى أن جارية صغيرة تسمى "الزنيرة" قد أسلمت، وكانت مملوكة لسيدة قاسية القلب من قريش، فلما علمت بإسلامها أخذت تعذبها بشتى أساليب العذاب، وفي يوم جمعت سيدتها الجواري وأمرتهن أن يضربن الزنيرة على رأسها حتى فقدت بصرها. وكانت تحرمها من الماء،وعندما كانت تطلبه تقول لها سيدتها: ابحثي عنه أمامك، بل كانت تتطاول وتقول لها: إن كان ربك حقا كما تزعمين ادعي له أن يرد عليك بصرك. فعند سماع الزنيرة لذلك رفعت يديها إلى خالقها القادر على كل شيء طالبة أن يردّ لها بصرها، فأبصرت بمشيئة الله وقدرته ورحمته وإذا بسيدتها تصيح وتصرخ من ألم في رأسها وتطلب من جواريها أن يضربوها بالنعال على رأسها حتى فقدت بصرها! واليوم ألا نشاهد العبر بأم أعيننا؟ انظروا إلى شارون على فراش الموت أليس فيه عبرة لنا معشر الغارقين في بحار الظلم؟ إنه ومنذ سنين خلت مازال يرقد في المستشفى ينتظر الموت الذي لا يأتي بعد أن فشل كبار الأطباء، وانفضّ من حوله الجميع هربًا من رائحة نتنة تنبعث من جسد يتقرح ويتعفن تدريجيًّا. ماذا كانت نهاية الرئيس حسني مبارك، وزين العابدين بن علي، ألا نشاهد الأحداث يوميا من خلال المحطات الفضائية أو الشبكة العنكبوتية. إنها لنعمة أن نرى بأم أعيننا كل ما يجري حولنا لنتعظ، فمن تراه يتعظ؟ والسلام لكل من قرأ فوعى، ولان قلبه وخشي الجبار واهتدى، وعن ظلم بني جلدته من البشر تراجع وانثنى.
* إشارة: أخذت القصص الواردة من كتاب (100 قصة من نهاية الظالمين، هاني الحاج، المكتبة التوفيقية)
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: هبة البشير