كل عيد وأنت العيد يا وطني، كيف أناجيك هذا الصباح، بأية لغة أقف في محرابك؟ أمد يدي مصافحًا، لاثمًا جبينك الوضاء، مقبلا يديك الطاهرتين. أنت ما زلت أسيرًا في الأصفاد، تهوي عليك سياط الجلاد آناء الليل وأطراف النهار، لكنك يا وطني لم يقهرك القهر، ولا نالت من عزيمتك الصعاب.
كل عيد وأنت العيد يا وطني، رحلتنا إليك بدأت بك ولا تنتهي إلا بك، أنت حادي ركبنا إلى يوم لا تغيب عنه الحرية، إلى شمس تضيء فضاءاتنا أملًا بغد واعد لأجيال ورثت حبك عن أجيال وأجيال من عشاق الانتماء إلى حماك، ومهما طال المشوار إليك ستظل القافلة تسير وتسير تتحدى العتمة والغربان، تتحدى هذا الليل الباسط ذراعيه على آفاقنا، تطارده بمشاعل التحرر والخلاص حتى ينجلي إلى الأبد.
أنت العيد يا وطني، سلام عليك، سلام على كل ذرة من ترابك الطهور، سلام على أنفاسك وهي تطفئ نيران غربانهم الحاقدة كلما أشعلوها، وكلما أمطروها عليك نزلت بردًا وسلامًا. سلام على شهدائك الأطهار وأسراك الأبرار، وقبلة بلسم على كل جرح يحمله كل عاشق من عشاقك الأخيار. سلام عليك يا وطني، أنت آسر لا أسير، إنهم هم وحدهم أسراك! لن تهنأ لهم حياة ما دمت في القيد يا شامخ الهامة لا تنكسر لك قامة، لن تشرق لهم شمس ما دمت أنت جريح الجسد، حاشا أن تنال الجراح من روحك وكبريائك.
أنت العيد يا وطني، فارس أنت صلبوك على جدران الجحود والنكران، لا تترجل عن صهوة كبريائك، أغمضت عينيك قليلًا لتصحو مرة أخرى على صباحك الأخضر يغتسل بأنداء الحرية، ويرفل بعباءة المجد والانتصار. أنت لا تموت يا وطني! حين ترحل الشمس عن آفاقك تدخل شمس أخرى إلى مدارك، تضيء فضاءات وجودك بوهج سنا عاشق جديد ولد في أحضان الانتماء إليك عشقًا ووجدًا.
أنت العيد يا وطني، مغناة أنت على فم الزمان، تشدوها الأطيار للأطيار جيلًا فجيلًا، موجة عطر أنت تنفحها الأزاهير عبقًا يسافر في ارتعاشات نسائم ولدت في أحضان آصالك وأسحارك، شلال ألق أنت يلون المدى إباءً وكبرًا، قصيدة عشق أنت يغازلها كل شاعر عساه يقطف بعض عناقيدها، يستمطر وحي مدادها على صفحات أوراقه البيضاء، فتخضوضر وتزهر وتضيء الفضاء شعرًا وحبًّا بين يديك.
أنت العيد يا وطني، بين يديك تعلم الكبار والصغار أبجدية الإصرار على اختيارك أنت دون سواك برغم المنافي والشتات، كل حرف من حروف اسمك ملحمة عشق ترددها القلوب قبل الألسن، الفاء فارس أنت يأبى الترجل عن جواده، اللام لا حب إلا حبك، السين سلام ربوعك على عشاقك المنتمين إليك قلبًا وروحًا وفكرًا، الطاء طريق أنت إلى المجد والعلياء والكرامة، الياء يد مباركة أنت تمسح جراحات الزمن، النون نور أنت يضيء دروب أبنائك، ونار تحرق كل يد تمتد إليك بسوء.
أنت العيد يا وطني، ها هي شمسك تتحدى الغياب والغروب، تطل عليك في هذا الصباح تحمل لك العيد في حقائبها المثقلات حبًّا وإكبارًا. أيها الطائر الأسير المجنح ألقًا وكبرياءً خلف قضبان المنفى والاغتراب، يا رهين القيد يسري في عروقك الرفض والتمرد على رماد الاندثار، خاب غربان الليل فأنت ما زلت تتربع على عرش ربيعك الأخضر، وحاشاك أن تتردى في مهاوي العدم كما أرادوا لك.
أنت العيد يا وطني، أيها الغالي المفدى لا يغـلو عليك غال، ولا يعلو عليك عال، فكم مهرَك عشاقك أرواحهم وما زالوا فداءً لخلاصك، دماء عشاقك ملاحم بطولة يتغنى بها التاريخ أنشودة فخر واعتزاز، هذه الدماء لا يمكن أن تهون.
أنت العيد يا وطني، أيها الساكن في وجدان إنسانك، المسكون فيك هذا الإنسان. ما زال عشاقك يدخلون محرابك أفواجًا أفواجًا يرتلون لك أنشودة الحرية، هاماتهم ترنو إلى السماء بكبرياء، تتوج جبين زمانك بغار التمرد، ترفع الكؤوس أنخاب انتصار، تقيم أعراسًا لعيد حريتك الموعودة به الأجيال، يومها تسترجع الأعياد لونها المضمخ بالحرية، المتفيء ظلال المجد والفخار.
أنت العيد يا وطني، يا وطن الأسرى. تمردوا على قيود عبودية هذا الزمان الملطخة كفه بالسواد والطغيان، أسراك أيها الوطن الأسير وهبوك شبابهم مهرًا لعرس حريتك، تحدوا المستحيل، ركبوا الأهوال، شقوا غبار الموت والدمار، وها هم الآن خلف القضبان يطرزون لك من عنادهم وشاح كبرياء، ينظمون لك من إصرارهم مسبحة حرية، ويرسمون لغدك من سنا محياهم شمسًا لا تغيب، شمسًا لنهارات وعد لا يخيب.
أنت العيد يا وطني، يا طائرًا لم يقدر الموت على اغتياله، وُلدتَ ألف مرة ومرة، نفضت عنك لعنة الرماد، كتبت بالعناد وثيقة الميلاد. مكابر أنت على جحيم النار والجراح، أقرأ في عينيك شمسًا أزهرت، من رحمها سيولد الصباح، شمسًا تلون المدى حبًّا. غداة صحوةٍ ينقشع اليباب، تمسح وجه ذلك التراب من رحلة اغتراب.
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: هبة البشير