راحَ يَخُبُّ قُربيَ مُتقافِزًا كَعُصفورٍ مُستَثار، كَهُندُباء طوّحَتْ بِها الريحُ فَطافَتْ حُرّةً في نسيم الأصيل المُحم، رَميتُ بالصَحيفَةِ جانِبًا كيما أُطلِقَ لِذِراعيّ السَراحَ لِتُطوّقانِ ذلكَ الكائِن الضاجّ تلقائيّة وَمُشاكَسة، رَفَعَ غُرّة شَعرِه الكُستَنائي لِتُشرِق أمامَ خَريفِ تَجاعيدي تِلك العُيون الاستوائيّة. غَرَقتُ للحظتينِ في مُقلَتينِ كَبِركَتينِ مِنْ عَسَل، نَثَرَ في حِجْري عُلبَةَ ألوانِهِ وألعابِهِ كما تَنثُرُ شَجَرَةُ قيقَبٍ أوراقَها القُرمُزيّة، بارتِعاشِ البَلابل المُبتَلّة، ثُمَّ شَحَنَ سِلاحَ براءَتَهُ بِتلكَ الذَخيرةِ الشَديدةِ التَعبير مُطلِقًا نَحوَ أسايَ ابتِسامَةً مِن ذلكَ النوعِ الذي لا قِبلَ لإنسانٍ بِهِ، فَكيفَ بأبْ؟ مَنْ مِنّا شعرَ يومًا أن ضفتي العُمُرِ تُجسرهُما ابتِسامة، مُجرّدُ ابتِسامة؟
وأنَّ رِحلَةَ الحياةِ قد تُوجَزُ في لِقاءٍ كَهرَبَتهُ عاطِفةٌ سامية؟ خَطَفَ قِطعةَ سُكّرٍ أضَعُها عامِدًا خارِجَ طَبقِ الشاي، مودِعًا إيّاها فَمَهُ الدَقيق، سَرقَها تارِكًا لي فُتاتَ المَرارةِ وشيئًا منْ شَذاهُ وَنذيرًا بِذَبحَةٍ أَبويّة، ثُمّ اختَفىمُتقافِزًا كَغَزالٍ مَذعورٍ خَلفَ مَرجٍ صَغير لِتتلاشى مَعَهُ بُقعَةُ ضوءٍ حَدّدتْ مُنذُ انبلاجِها آخِرَ مَجال لِرؤيَتي، مُعلِنةً أن كُلُّ ما عَداها لَم يَزِدْ عَنْ كَونِهِ مَحضَ زاويةٍ عَمياءَ موحِشة. تأملتُ دُميَتَهُ الأثيرة، مَرّ زَمَنٌ كان فيهِ امتلاكُ دُميَةٍ ضَربًا مِنْ التَرَفِ، ولكن هل عَرَفَ أبي قَبلَ رَحيلِهِ أني لَمْ أكُن بِحاجَةٍ لِدُماهُ بَل لِدفءِ قُربي مِنْ يَديه؟ ولو قُدّر للدُميَةِ البَكماء أن تَنطق لقالت: وَهل أنتُم سوى دُمىً وَعرائِسَ على مَسرَحِ الحَياة؟ يكتَشِفُ المَرءُ وَهوَ في الهَزيعِ الأخيرِ مِنْ حَياتِهِ، وَنِهاية الذؤابَة الأخيرة مِنْ خيطِ العُمُرِ، أنّهُ كانَ باستِمرار يَضحَكُ على ذِقنهِ إذ ادّعى أنهُ يُمسِكُ بِتلابيبِ أولادِه، فالحَقُّ أن أطفالَنا يقبِضونَ على أخطرِ تَجمُعاتِ أعصابِنا، يُقيمونَ على أنقاضِ حيواتِنا جُمهوريّاتٍ يُنفى إليها كُلُّ الآباءِ الطَيبين، وهُناكَ على ناصيَتِها يَخطِفونَ رَحيقَ كُلّ السِنين ويرتَهنوننا عِندَ بواباتِهِم نَتسوّلُ مِنهُم رِضانا نَحنُ عَن ذَواتِنا، نَدفَعُ فِديَةَ عِتقِنا فادِحَةً جَسيمَة، فأي غَبيّ يُنجِبُ قَلَقَهُ السَرمَديّ الخاص؟ وأيُّ أبلَهٍ تُراهُ بِطيب خاطِرٍ يُرَبّي في كَنَفِهِ جَيشًا مِنْ الهُمومِ؟ ليسَ سِوى الإنسان نَفسَه، أنا وأنتَ وَكُلُّ المَجانينِ والمَعتوهينَ ممنْ لا يَملِكونَ قِرشًا صَفيقًا أبيَضًا، وَمَنْ غيرُنا مِمنْ نَنتَعِلُ أحذيةً مَثقوبَةً ونعتَمِرُ قُبعاتٍ مُهتَرِئةٍ ونَتجلبَبُ بِمِعطَفٍ رَثّ تُعَشعِشُ في أديمِهِ البالي براغيثُ العَوَزِ وتَنفرُ مِنهُ جُيوبٌ خاويةٌ تَصفر فيها رياحُ كانونَ مُتأبِطينَ روايَةً تَنقُمُ على مئةِ عامٍ وعامٍ مِنَ العُزلَة، ثُمَّ في لَحظةِ استجابَةٍ لِفِطرةِ البَقاءِ قَرّرنا أن نُضيفَ للعالَمِ بَصْمَتَنا الحَيّة، أو لِنَقُل على سَبيلِ التَقريبِ ذلكَ القَرَفُ الصاخِبُ الجَميل. هُم على ضَعفِهِم يَكتَنِزونَ خَلف جُلودِهِمُ الرَقيقةَ ألفَ إعصارٍ هائِج، لَديهم تِلكَ القُدرَةَ الغامِضة على تَركِنا مُتسَمّرينَ بين الشَهقَةِ والشَهقةِ التي تَليها، بينَ السَكتَةِ والأخرى الوَشيكَة، والغَريبُ أننا بأمسّ الحاجَةِ لِكُلّ خُطوَةٍ مَعجونَةٍ بالألَمِ في طَريقِ الآلامِ الموحِشِ الطَويل ذاك. نحمِلُ على عواتِقِنا خَشَبَةً سَنُقتَلُ عَليها وإليها وَفيها وَمِنها وَنحنُ نُتمتِمُ بالشَهادَة، مُستَعدّين أنْ نَصنَعَ لَهُم مِنْ ألواحِ عُمُرِنا المُهترئِ فلكًا وَمِنْ أحزانِنا دُسُرًا وَمِنْ ضياءِ أعيُننا سِراجًا كيما تتهادى بِهِم سُفُنُ الأقدارِ في لُجّة اليَمّ، وَنحنُ -آباءُ الزَمَنِ العَنيدِ- نَجلِسُ القُرفُصاء في عَنبرِ الشَحن نوقِدُ شمعةً يَتراقَصُ لَهَبُها الشاحِبُ الضَئيلُ بينَ ابتهالٍ.. واحتِفال، كيلا يَحولَ بيننا الموجُ فَنكونَ مِنَ المُغرَقين!.
وَلَدي، قَدْ تندّ مِني عَليكَ في بَعض الأحايينِ قسوَةٌ أو تبدو جَفوةٌ أو تَتجَلّى غِلظة، ولكن هَل يَستَقيمُ الصُلبُ بِغير اللَهَب؟ وَهَل نستَمرئُ رِضابَ النَعيمِ بِغيرِ مُكابَدةِ النَصَب؟ وَهَل عَلِمَ أولادُنا أننا لا نَبكي غَيرَهُم وإن مَشّطونا بأمشاطِ الَحديدِ أو ضَربونا بِالمَقامِعِ، لأنَّ دُموعَ الرُجولَةِ ليسَ لَها ثَمنٌ؟ موعِدي مَعَكَ يا وَلَدي يومَ تُنجِبُ وَلَدًا، فَعِندَها وَعِندَها فَقَط، سَتفهَمُ تِلكَ الأُحجية.
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي