تُحصي قاعدة البيانات : "إثنولوج" "Ethnologue" ما مجموعه : 6909 لغة في أكثر من 220 بلد [1]. 96% من تلك اللغات يستخدمها فقط 4% من سكان العالم، والمكتوب منها لا يتعدى عدده 200 لغة. وهي موزعة جغرافيا على القارات الخمس على النحو الآتي : آسيا 2322 لغة (33.6 %) ، إفريقيا 2110 لغة (30.5 %) ، أوقيانوسيا 1250 لغة (18.1 %) ، أمريكا 993 لغة (14.4 %) ، أوروبا 234 لغة (03.4 %) .
وتلك اللغات يختلف عددها من بلد لآخر. ففي حين نجد بعض البلدان تحتكرها بضع لغات، نُلفي بلدانا أخرى تزخر بتنوع لغوي لافت ؛ فمثلاً غينيا الجديدة (بابوا غينيا الجديدة) تحتل صدارة التنوع اللغوي الأعظم في العالم بإحصائها لـ(823) لغة حية، على الرغم من كون عدد سكانها لا يتجاوز 6 مليون نسمة. وهذه الكثافة اللغوية المرتفعة مردُّها إلى الظروف الطوبوغرفية التي تتميز بها تلك الجزيرة، والتي أعاقت الاتصال بين المجموعات المختلفة.
غير أن هذا الثَّراء اللُّغوي العالمي مُهدَّدٌ وبشكل كبير. إذ يتوقَّع علماء التنوع اللغوي في سجل الحضارات اختفاء نصف موروثنا اللغوي تقريبًا بحلول منتصف القرن الحالي . وهو ما يُعادل ضعف معدل اختفاء الثدييات، وأربعة أضعاف اختفاء الطيور في سجل التنوع الحيوي. وإذا لم يتحرَّك العالم بسرعة وفاعلية، فإنَّ 90% من هذه اللغات المحكية، غير المكتوب وغير الموثق، سيختفي تمامًا عام 2100 [2].
إنَّ ضياع واختفاء اللغات مُستمِرٌّ منذ عشرات الآلاف من السنين باعتباره إجراءً طبيعيًا في العالم الإنساني. فإحياء اللغة أو موتها يخضع لمبدأ العرض والطلب، تبَعًا لنظرية الأواني اللغوية المستطرقة [3] التي تحركها آليا حضارة أية أمة. فحينما كانت الحضارة الإسلامية تسود العالم في العصور الوسطى، كانت اللغة العربية لغة العلوم والمعارف الإنسانية، وبها كانت تدرس العلوم في كبريات الجامعات الأوروبية. وعندما أفل نجم حضارة المسلمين، وتطورت أوروبا جرى تدريس العلوم باللاتينية في الجامعات، ومع ظهور اللغات القومية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية، غدت اللاتينية من اللغات الميتة رغم تمسك الكنيسة الغربية بها. فاللغات مثلها مثل الكائنات الحية الأخرى. النباتات والحيوانات تكبر وتنمو وتزدهر، ثم تضمر وتختفي، أو تحلُّ محلها لغة منحوتة منها. كل ذلك جرى في الماضي، إما استجابة لقانون التحول، وإما نتيجة كوارث إنسانية أو طبيعية. لكن بمعدلات بطيئة، وعلى امتداد عشرات القرون. غير أنَّ القرون الثلاثة الماضية شهدت زيادة ملحوظة في اختفاء كثير من اللغات، وتناقص عدد المتحدثين بالكثير منها، كما يتَّضح جليا من خلال الخارطة التي أعدتها منظمة اليونسكو . ويُشير تقرير لمنظمة اليونسكو إلى أنَّ في العالم: 199 لغة ينطق بها أقل من عشرة أشخاص، و178 لغة أخرى ينطق بها ما بين 10 و50 شخصًا [4].
ومع تنامي الوعي بأهمية الدور الحاسم الذي تؤديه اللغات في التنمية، وضمان التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات، وتعزيز التعاون، وبناء مجتمعات معرفة شاملة، والحفاظ على التراث الثقافي وتوفير التعليم الجيد للجميع، تدخلت جهات كثيرة على خط "حماية اللغات من خطر الانقراض". مضطلعة بمسؤولياتها، واعتُمدت سياسات لغوية فعالة لتعزيز الجهود الجارية من المجتمعات للحفاظ على لغتها، تنشيطا لها وضمانا لنقلها إلى الأجيال الشابة. وتُعَدُّ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) من الجهات الأكثر نشاطا في حقل حماية اللغات من خلال برنامجها للغات المهددة بالانقراض، والذي يرمي إلى دعم المجتمعات المحلية والخبراء والحكومات ؛ مـن خـلال إنتاج وتنسيق ونشر :
• أدوات للرصد، والدعوة، وتقييم حالة واتجاهات اللغة .
• خدمات متنوعة كتقديم المشورة بشأن السياسات، والخبرة التقنية والتدريب والممارسات الجيدة ومنصة لتبادل ونقل المهارات ([5]).
وأولى مبادراتها في هذا المجال كانت في ثمانينيات القرن الماضي. حينما بدأت (اليونيسكو) بتسليط الضوء على التنوع اللغوي باعتباره عنصرًا حاسما من عناصر التنوع الثقافي في العالم. وبقيادة ستيفن وورم، أطلق قسم التراث الثقافي غير المادي في (اليونيسكو) برنامج "الكتاب الأحمر للغات المهددة بالاندثار". الذي كان يرمي إلى [6] :
1/ جمع المعلومات حول اللغات المهددة بالاندثار بشكل منتظم. بما في ذلك وضع اللغات، ودرجة الطوارئ، للقيام بالبحث.
2/ تطوير الأبحاث وجمع المواد حول اللغات المهددة التي لم تحظ بأي نشاط يذكر. مثل اللغات النائية وغيرها، سيما تلك التي لها أهمية علمية للمقارنة من وجهة نظر علوم الألسنيات الرمزية والتاريخية. وكذلك اللغات المهددة بالاندثار المباشر.
3/ الاضطلاع بنشاطات ترمي إلى تشكيل لجنة مشروع عالمية وشبكة من المراكز الإقليمية لتصبح مراكز اتصال لمناطق كبيرة على أساس الاتصالات الموجودة.
4/ تشجيع نشر المواد ونتائج الدراسات التي أجريت حول اللغات المهددة بالاندثار .
إلا أن "مشروع الكتاب الأحمر" لا يأتي على ذكر هدف حاسم، وهو العمل مباشرة مع المجتمعات المعنية باللغات المهددة بالاندثار في اتجاه صون اللغة وتطويرها وإحيائها واستمراريتها. فلابد لأي بحث في المجتمعات المعنية باللغات المهددة بالاندثار أن يكون متبادلا ومتعاونا. ويترتب على التبادل في هذا الإطار أن يشارك الباحثون بنشاط أكبر في المجتمع لجهة تصميم مشاريعهم البحثية وتنفيذها وتقييمها [7].
ولتحقيق هذا الهدف أطلقت (اليونيسكو) عامَ 1996 مشروع "أطلس لغات العالم المهددة"، "هذا المشروع وليد القلق حول فقدان التنوع لهذا المورد الإنساني الأساسي، من خلال تزايد المخاوف المتصلة بفقدان التنوع البيولوجي في العالم ، والظواهر ذات الصلة: فقدان السكان المعزولين، والاكتفاء الذاتي بسبب التعدي التحضري، التركيز الاقتصادي، وتجانس الثقافات الإنسانية التي تنتج عنه" كما يقول كريستوفر موسلي [8].
ومنذ إنشائه ، اعتُمد "الأطلس اللغوي" أداة للتوعية/الدعوة قبل كل شيء. لأنه يوفر آلية يمكن الوصول إليها بسهولة لرصد اتجاهات تطور التنوع الألسني، ومتابعة وضعية اللغات التي في خطر، وتشجيع توثيق اللغات وإحيائها في شتى أنحاء العالم. والتحسيس وإثارة وعي كل من الجهات الرسمية، مجتمعات المتحدثين، والجمهور بشكل عام فيما يتعلَّق بالتَّهديدات الواقعة على اللُّغات. والحاجة الماسَّة إلى حفظ التنوع اللساني العالمي [9].
يشير العمل الذي قام به اللغويون المشاركون في (أطلس لغات العالم المهددة بالاندثار) إلى أنَّ ظاهرة اختفاء اللغات تطال جميع المناطق من دون استثناء. فهي ظاهرة عالمية بامتياز، وتمتد في ظروف اقتصادية متباينة. والبلدان المعروفة بتعددها اللغوي، والتي هي الهند، والولايات المتحدة، والبرازيل، وإندونيسيا، والمكسيك، هي من أكثر البلدان احتواءً على اللغات المعرضة للخطر. ومن مجموع اللغات البشرية التي تم إحصاؤها في غضون سنة 2009، والتي بلغ عددها 6909 لغة، تحصي قاعدة بيانات "الأطلس التفاعلي" الحالية2581 لغة مهددة بخطر الانقراض في جميع أنحاء المعمورة. وهو ما يُمثِّل 37.35 %. تلك اللغات حوالي عُشرها ميتة (231 لغة)، و577 محتضرة، بينما 527 في وضع خطر جدًا، و646 في وضع خطر، 600 لغة في وضعية هشة [10].
وبخصوص العالم العربي فإنَّ (الأطلس التفاعلي) يُحصي في سبع عشرة دولة من أصل163 لغة مهددة بالانقراض على درجات متفاوتة، ما يمثل 6.31 % من لغات العالم المهددة. وعلى الرغم من كون هذا الرقم لا يشمل ثمانية دول، هي السعودية، البحرين، قطر، الكويت، الإمارات العربية المتحدة، جيبوتي، الصومال، جزر القمر. تلك الدول التي يزيد عدد سكانها عن الخمسين مليون نسمة، وتمثل حوالي 14.38 % من عدد سكان الوطن العربي، ومساحتها في حدود 18.95 % من مساحته، وهي تزخر بتنوع لغوي مُعتبر. على الرغم من كل ذلك، فإن هذا الرقم (163 لغة) يثير القلق لأن اللغات المهددة بخطر كبير تتصدر القائمة بـ 36 %، وكذلك لاتصال كثير من تلك اللغات باللسان العربي، وحاجة الدارسين إليها للكشف عن الكثير من القضايا اللسانية المتصلة بالعربية.
الإحالات:
([1])http://www.unesco.org/culture/languages-atlas.
([2])Moseley, Christopher. Atlas des langues en danger dans le monde. p4 .
([3]) فريق خبراء اليونيسكو الخاص المعني باللغات المهددة بالانقراض، وثيقة : "حيوية اللغات وتعرضها للاندثار". ص5 .
([4]) المرجع نفسه.
([5])Moseley, Christopher. Atlas des langues en danger dans le monde. p11 .
([6])http://www.unesco.org/new/ar/media-services/single-view/news.
([7]) أكيرا واي ياماموتو، اللغات المهددة بالانقراض، مجلة إيه جورنال يو إس آي، م14ع6. وزارة الخارجية الأمريكية، واشنطن. 26 حزيران/يونيو 2009. ص 31 .
([8]) نظرية الأواني المستطرقة : تنص على أننا إذا ما وضعنا سائلاً ما في مجموعة أوانٍ زجاجية شفافة متصلة ببعضها، وأخضعناها لضغط متساوي، فإنَّ المستوى العلوي للسائل سيكون متساويا في الأواني جميعها، على الرغم من اختلافها في الشكل والحجم.
([9])http://www.unesco.org/new/ar/media-services/single-view/news.
([10])Lewis, M. Paul (ed.), 2009. Ethnologue: Languages of the World, Sixteenth edition. Dallas, Tex.: SIL International.
تدقيق: مريم الهلال