تحدثت في مقالات سابقة عن أسباب تقدم مجتمعات الدول الصناعية ومؤسساتها من وجود فريق للعمل، ومن سيادة قيمة المؤسسية، ومن العمل على تطبيق إدارة المعرفة، ويأتي هذا المقال لاستكمال عوامل تقدم المجتمعات الصناعية الكبرى بالحديث عن عامل مهم جدا يأتي في المقدمة، وإن تأخر الحديث عنه وهو: (سيادة الأخلاق) في هذه المجتمعات.
فهذه المجتمعات المتقدمة تسودها ثقافة الأخلاق التي تعد أساس الدين؛ حيث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الآخلاق"؛ فالأخلاق هي جوهر الدين ومحوره، ومن لا أخلاق له لا دين له، وصدق الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية آنذاك حينما قال قبل مئة عام وبعد عودته من فرنسا: رأيت إسلامًا ولم أر مسلمين.
فلقد طبق الغرب جوهر الدين وهو الأخلاق واحترام القواعد، ولذلك تقدموا بينما تراجعت العديد من المجتمعات العربية الإسلامية بسبب تفشي حالة الانفلات الأخلاقي داخل هذه المجتمعات في الشوارع، وفي العمل، والأماكن العامة، وفي وسائل الإعلام والثقافة؛ حيث أصبحت تسود العديد من هذه المجتمعات حالة من عدم الاحترام بين العديد من الأفراد؛ فلم يعد العديد من التلاميذ يحترمون العديد من أساتذتهم كما كان، ولم يعد العديد من المرؤوسين يحترمون مديرهم كما كان، ولم يعد العديد من الأفراد يحترمون العديد من جيرانهم كما كان، ولم يعد العديد من البائعين يحترمون زبائنهم كما كان، ولم يعد العديد من الصغار يوقرون الكبار كما كان، ولم يعد العامة يوقرون العلماء كما كان، ولم يعد يحترم العديد من الأفراد يحترمون اللوائح والقواعد والآداب العامة في الشوارع ومختلف الأماكن العامة والخاصة كما كان.
ويمكن إرجاع هذا الانفلات الأخلاقي إلى عدة عوامل من أبرزها: ضعف التربية في الأسرة، والمدرسة، والجامعة، ودور العبادة؛ حيث لا يوجد تقويم للسلوك ولا يوجد زرع للوازع الديني؛ فالأديان السماوية تزرع الأخلاق حيث تنفي أن تمام الإيمان الحق بالله لمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه. كما يمكن إرجاع هذا الانفلات الأخلاقي إلى وسائل الإعلام والثقافة؛ حيث أصبحت لغة الخطاب في العديد من البرامج والحوارات والمسلسلات والأفلام والمسرحيات والأغاني رديئة جدا.
ولا يمكن في النهاية أن نخلي أجهزة الرقابة والأمن والعدالة في هذه المجتمعات المتأخرة من مسؤوليتها في انتشار هذا الانفلات الأخلاقي؛ حيث تراجعت هذه الأجهزة عن دورها في الإمساك بالمخالفين أيا كان وضعهم أو وضع آبائهم وعن محاسبتهم بقوانين صارمة؛ لتقدم الرادع القوي للجميع دون استثناء، وهو الأمر الذي لم تغفل عنه المجتمعات المتقدمة في فرض احترام القواعد العامة واللوائح والقوانين دون استثناء؛ وهو ما يفسر ببساطة السبب وراء أن الفرد في المجتمعات غير المتقدمة لا يحترم القواعد العامة بينما يحترمها إذا انتقل إلى المجتمعات المتقدمة التي تعلي ثقافتها من هذه القيمة وتتصدى أجهزة الرقابة والأمن والعدالة فيها بكل قوة وبدون استثناءات للمخالفين.