هل يستطيع المرؤ أن يعيش بلا مكتبة؟
الجواب ببساطة :نعم.
ولكن أن أنام على الشوك أهون لدي من أن أنام بعيدًا عن مكتبتي.
فمكتبتي تملأ غرفة جلوسي وممرات بيتي وغرف النوم الثلاث، فأنا أعيش وسطها.
مكتبتي ترافقني إلى السرير ولا تتركني حتى أنام وترقد بجواري تحرسني إلى أن أستيقظ.
وأنا أحبها، أتأملها ولا أملّ من التطلع إليها. أحسّن ترتيبها، وأمسح غبارها، وأجلّد كل كتاب جديد فيها بمهارة وعناية، وأدعو زوجتي وأطفالي لتأمل كنوزها والمشاركة في قراءتها، لكن زوجتي يحلو لها دومًا سحب الكتاب الذي أقرؤه ومزاحمتي عليه، حتى إذا قرأنا رواية واحدة جميلة صارت هذه الرواية جزءًا من ذكرياتنا معًا تضاف لألبومات صورنا وقصصنا المشتركة.
مكتبتي تجعل لحياتي معنى، تؤنسني، وتشغل أوقاتي، وتملأ حياتي، وتصنع عنواني ومجدي وفخري. إن أهملتها جفتني وجعلتني غريبًا عنها، وإن أقبلت عليها هشت وتبسمت وأظهرت لي من كنوزها ما كان مخبوءًا، وعرّفتني كم خسرت ببعدي عنها، وسامحتني ودعتني لتعويض ما فاتني منها.
مكتبتي تذكّرني بأبي، وتشعرني أني أجلس معه، أتحدث إليه.
حين أتأمل المكتبة أتمنى أن يرى أبي وعمي الشيخ جميل العقاد مكتبتي وقد نمت وضاهت ما كان لديهما من كتب، وأتصور فرحتهما بهذه المكتبة وما حوت من جديد.
ثم يتحلّب لساني وأطرب لذكرى الكأس الشفاف الكبير من الشاي بالقرفة والقرنفل والجوز والكثير من السكر الذي كنا نعده أنا وأبي على مدفأة الحطب الخزفية الإيطالية كرزية اللون ماركة "ريتا" حيث كنا نحوم حولها نلقمها الحطب ونتدفأ بها، ونخلو سويًا ساعات وليس لنا حديث إلا الكتب والمكتبة.
قالوا: المرء كثير بإخوانه، وهذا صحيح ولكن يبدو لي أن المرء كثيرٌ بكتبه أيضًا.
سألني سائل كم أحتاج من مكتبتي أو بكم كتاب أعمل أو أشتغل: -فقلت له قليل. لكني لو احتجت كتابًا ولم أجده، فإني أحس بالغصة والقهر.
لو قلبت كتبي فنادرًا ما سترى أوراق نقد منسية فيها، لكني سترى على بعضها خطي وتعليقاتي، وعلامات التنبيه الصفراء تضيء الكلمات والأسطر الهامة، وقد ترى وريقات صغيرات عليها ملاحظات قصيرة وستراني من خلالها.
قد أكون عليلاً أو مكتئبًا، أو مطأطئًا تحت ثقل سنوات عمري، لكني حين أصبح خلف مقود السيارة على طرقات السفر، أو حين أتوجه للمكتبة أصبح روحًا خفيفة وثابة، ونسرًا محلقًا، ينفتح لي الفضاء، ولا تكاد تسعني الأرض، يمتد عمري مئات السنين، ويجتاحني طموح لا حدود له وكأني خالد لن أموت.
بعد أن تثاقلت خطواتي صارت المكتبة لي روضة وملعبًا أصول فيه وأجول، وبعد أن ضاع الوطن، صارت المكتبة لي وطنًا.
فهل ما زال المرء يستطيع أن يعيش بلا مكتبة؟