الحمد لله رب العالمين. العالم عالمين. عالم الإنس وعالم الجن، عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الواقع الافتراضي وعالم الواقع الحقيقي. أيضًا الواقع واقعين، واقع حقيقي بعالم افتراضي وواقع تخيلي بعالم حقيقي. كثيرون يعتقدون أن الواقع الحقيقي هو العالم الذي نحياه بين الناس وأن الواقع الافتراضي التخيلي هو العالم الذي نخلقه بأنفسنا لأنفسنا في خيالنا.
إنما الحقيقية في اعتقادي على العكس من ذلك تمامًا، فعالم الواقع الافتراضي هو الذي نحياه بين الناس، عالم متعدد الوجوه، عالم الزيف والتنكر وإظهار ما ليس في الباطن. مُدعي من يقول لك أنه يمكنه معرفة خبايا ما في نفس أقرب الناس إليه. يمكنك أن تقف بينك وبين إنسان لقرب مسافة متر، يضم يدك بين يديه، ينظر مَليًا في عينيك، ابتسامته تملأ وجهه، تبادله ابتسامته بابتسامة، إنما هيهات أن يعرفَ أيُّ مِنكما فيما يفكر الآخر. حيث تقف أنت وهو الأيادي متشابكة والعيون متماسة فإن ذلك العالم من اللحم والدم والأنفاث المترددة اللاهثة هو العالم الافتراضي؛ إذ فليس هو العالم الحقيقي كما نعتقد. أما ما في الخيال، ما في باطن الدماغ، وتلافيف وجدان كُلّ منا، أنا وأنت، وهو وهي، فذلك هو العالم الحقيقي؛ ما يتمنى المرء قوله وفعله هو العالم الحقيقي.
فكلنا نعرف أن ثمة كثيرًا من العلاقات الإنسانية تستمر بنجاحٍ مُنقطع النظير في العالم الافتراضي الذي نعتقد أنه العالم الحقيقي، إنما في لحظاتٍ تنقسم عروق المحبة والود الذي كان يبان في الظاهر. لتبدأ الاستفسارات وعلامات التعجب: معقول هذا الحب بينهم! كان أكثر من حب (روميو لجوليت)! معقول انفصلا! كنت تراهم وكَأنَّهم مخلوق واحد في جسدين! مضيا مع بعضهم عمرًا طويلاً، أربعون سنة زواج أو يزيد، كنت تراهم وكَأنَّهم متزوجين اليوم، انفصلا! بات لا يطيق أحدهما النظر في وجه الآخر. تعرف لماذا؟ لأنه بعد كُلّ هذا العمر اختاروا خلع القناع، كُلَّ منهما جاءت له لحظة شجاعة نادرة أحس فيها برغبة عارمة في أن يحول العالم الافتراضي لعالم الحقيقة، حوَّل الابتسامة المزيفة المرسومة بدقة والكلام المنمق المرَّتب لإحساس حقيقي، أتى بما يُخبئه من أرشيف واقعه الحقيقي الذي كنا نعتقد أنه الافتراضي التخيلي. صدّقوني كُلٌّ منا لديه عالمين، عالم الكذب والخداع والنفاق والرياء، عالم لا يمكن فيه إظهار كُلّ ما في البال والخاطر وعالم آخر تجوب فيه الأفكار رَّماحة، تطير لعنان السماء. فمن المستحيل لأيَّ منا عند رؤيته لشخص يحبه أو على النقيض لا يرتاح له أن يصرح له بذلك. تقابل في كُلِّ يومٍ وليلة عشرات من البشر، رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ، إذا صرح كُلّ منّا بمكنونات نفسه للآخر ستصبح الدُنيا فوضى، ستتداخل العوالم فتنفلت الأمور.
أما عندما ينعزل كُلّ منا في صومعته، ليس بالضرورة في غرفة مظلمة، أبدًا، يمكن لكُلّ منا أن ينعزل داخل طيات تلافيف عصبونات دماغه الفكرية في جمعٍ مكونٍ من عشراتٍ بل من مئاتٍ من الأشخاص. أقصد عندما ننفصل بأنفسنا، ليدخل كُلَّ منا منطقته السرية بين حواشي دماغه وطيات عقله ووجدانه - استأذنكم لأسميها المنطقة المُحرَّمة - المنطقة التي لا يستطيع أحد الولوج إليها، حَتَّى أقرب الناس إليك لا يُمكنه عبورها، حَتَّى أنه لا يُمكن لأيًّ منا أن يسمح لأحد بعبورها مهما كانت درجة القرب، أما إذا أخطأت وسمحت لأحد بالاقتراب والدخول لعالمك الحقيقي، الذي يعتقده الناس أنه العالم الافتراضي، فعندها يتبين واقع كُلّ منا الحقيقي، رغباته وأمنياته، يحكي لنفسه ما يتمناه، تنكشف العورة، تقع ورقة التوت، يُزَال الغموض، تفقد البريق.
يقوم كُلَّ منا في اليوم التالي ليعيش بين الناس واقعه الافتراضي التخيلي، كُلَّ ما فيه ردود أفعال، ما فيه تصرف وحيد حقيقي وواقعي، بل يعتمد على محيطاتٍ ومؤثراتٍ ونظراتٌ محسوبةٍ وكلماتٌ مُستدعاةٍ بدقة. كُلٌّ منا يرسم لنفسه شخصية اعتبارية افتراضية، يتمنى أن يراه الناس عليه، يتصرف كما يحلو للناس أن يروه، حَتَّى العصبي المتهور والمندفع والمتذاكي والمستخف لدمه والمتباسط وصاحب العنفوان كُلّهم يمتلكون الموهبة في رسم الشخصية الاعتبارية الافتراضية.
قالوا لا تصدق كُلّ ما تسمع وصدق نصف ما ترى، لهم كُلَّ الحقّ. حَتَّى إذا ما ادعى أيّ منا أنه ليس له وجهين، إذا حلف بأغلظ الإيمانات، أن ما في باطنه مثل ما في ظاهره، هنا في الحال يتأكد لنا أن ذلك البشري صاحب القلب الأبيض الصريح الواضح ذا الوجه الواحد هو أكثر الكذابين على وجه الأرض. ذلك ما دعى المؤلفين والفنانين من تخريج مكنونات النفس البشرية في وقائع افتراضية دعوها تخيلية في السينما والمسرح والأغنية والموسيقى.
إنما ذلك خطأ شائع، فواقع الحال أن الفن وما نراه أنه الخيال هو الواقع، وأن ما نحيا به بيننا وبين بعضنا البعض ونراه حقيقة هو الخيال، فما لم نطلبه هو في الحقيقة الخيال، الواقع الافتراضي؛ افترضنا ما فيه وفق نظام المجتمع وشرائطه. من منا لم يقابل إنسان تمنى في باله أن يكون شريكه لبقية عمره، لتفاجأ أن هذا الشريك الذي تمنيته في خيالك مرتبط بآخر في واقع آخر في عالم آخر يحيا معه حياة أخرى، لتصنع معه بينك وبين نفسك واقع افتراضي لتعيش فيه معه بعض الوقت، لعله هو أيضًا يصنع له هذا الواقع الذي يحيا فيه معك لبعض الوقت، أنت وهو يصنع كُلّ منكما واقع افتراضي يحيا فيه مع الآخر، ليخرج كُلّ منكما ليحيا مع شريكه الحقيقي في الواقع الحقيقي، فيكون ما تتمنياه في الخيال والافتراض هو الحقيقة، في حين أن ما صنعتموه في الواقع هو غيرّ الحقيقي والافتراضي.
من منا لم يخلق لنفسه واقع افتراضي مع شريك تمنى أن يظل يحيا معه في خياله، ليصنع معه واقع تخيلي مثير، كلما اقتربت منه، حَتَّى تلامست الأنفاس وتلاقت النظرات في العيون، إنما لا يمكنك أبدًا التصريح له بما يدور في بالك، تظل تتعامل معه، كما تنص القوانين واللوائح وشرائط العلاقات الإنسانية، زميلٌ في العالم، جارٌ لك، قريبٌ، صديقٌ لأقرب الناس إليك. فتظل البشرية تحيا في عالمين، عالم حقيقي يتمنى فيه البشر بكُلِّ جوارحهم ما يرغبون فيه، يتخيلوا فيه الحياة الحقيقية، وعالم الواقع الافتراضي كُلّ تصرفات وسلوكيات وتعاملت البشر فيه هي تمثيلية مُتقنة. ليظل يحيا الإنسان في ازدواجية العالمين، الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي، حَتَّى أن العالم الذي نحيا فيه على الأرض بات واقع افتراضي غير حقيقي، أما الواقع الحقيقي فهو عالم الغيب، الذي اختار فيه الإنسان رغباته وأمنياته، لينزل على الأرض، ليرى عواقب الاختيار بعدما قبل بحمل الأمانة.
فكل منا في عالم الغيب عندما عرض الله سبحانه وتعالى الأمانة على السموات والجبال فرفضت، وحملها الإنسان، اختار له موضوع (ثيمة كما يقولون بلغة الفن) theme باللغة الإنجليزية، فمنا من اختار اللعب ومنا من اختار السلطة وثالث اختار المال ورابع العزوة وهكذا لكُلّ منا اختياره الذي تحول لابتلائه في الحياة الدُنيا وتجربته. فمن أراد الحب كانت تجربته في الحب ومن اختار السلطة فكانت تجربته في السلطة. إنما لتكون التجربة حقيقية تحولت الاختيارات لشهوات، تملك الكُلِّ بتلابيبها حتىَّ تكاد تخنقهم، فمن استطاع فهم أنها تجربة نفد للعالم الآخر الحقيقي فائزًا، إنما من اتبع شهواته ضلّ راح للعالم الآخر مُنكس الرأس يَجُر أذيال الخيبة، بعد فوات الآوان. فلِكُلِّ بشريِ منا شيفرته: كود، مفتاحٌ، رقمٌ سري؛ لفتةٌ، بسمةٌ، همسةٌ، لمسةٌ؛ مالٌ، سلطةٌ، شهرةٌ، شهوٌة؛ شابٌ، أو صبيةٌ؛ فبها كلها أو بواحدة على الأرجح نعرفه؛ فنقدره حق قدره؛.. أو نمحوه.
لذا فعلينا أن نتمسك بالواقعين، الافتراضي والتخيلي، نحاول أن نقرب بينهم كلما استطعنا فعل ذلك، أن نعرف أن الخط الوهمي الفاصل بين الواقعين هو الحماية الحقيقية لنا. فمن ينظر لامرأة رجل آخر زنى بها في قلبه، من مد يده أو بصره لممتلكات غيره أثمٌ في قلبه، فالإثم هو ما يُحاك في الصدور وكرهت أن يطلع عليه الآخرون. كلما رُحت بما يحاك في صدرك ناحية خلق واقع لا تريد لغيرك الاطلاع عليه فأنت آثم، طالما استطعت أن تُلَّجم شهوات نفسك، وتخلق لنفسك واقعًا لا تخجل من أن يطلع عليه الآخرون فأنت الفائز. فكُلٌّ منا هو العارف إلى أين سوف يسحبه واقعه الافتراضي والحقيقي؛ للسعادة أم للتعاسة.