عند الحديث عن موضوع ما، والغوص فيه، لابدّ من معرفته جيدًا، فإنْ تعذر لابدّ من الإلمام به على الأقل، ثم الصدق في القول بعد ذلك، ورسم خطة واضحة لعرضه، وكلّ ذلك عناصر أساسية لا ينكرها أحد؛ لأنها تعين على الوصول إلى النجاح في تحقيق الغاية، وتعطي الأمل، وتزرع الثقة، في اجتياز اختبارات صعبة في الحياة، وتسهم في صقل تجارب الإنسان بالحكمة والخبرة والمران؛ تلك التي لا يستغني عنها عاقل.
إنّ معرفة الأمور معرفة واسعة عميقة، تحثّ الدماغ على تحريك خلاياه، وتفعيل ملكاته، فتدفعه للتطور، وتقرّبه من الحقيقة، وتجعله في مرتبة أعلى من التي هو فيها. أمّا الواقع، فليس هو الصورة التي نمارسها بجوارحنا، لذا أصبح ينفصل عنّا، ونبتعد عنه، ففي زمننا هذا، يجوز أن تفعل ما لا تقول، وأنت مرتاح، وتقول ما لا تفعل وأنت صادق؛ لأنّ المرء عند غياب الموازين السليمة، والمعايير العادلة، لا يلجأ للكيل أو التحكيم، فخاصية الذات أو(الأنا) في بعض النفوس التي لا ترى سواها في المرآة، ترفض أن تتقبل معادلة الوزن بالقسط، ومعيار المثل. لذا لا كيل إلاّ لمن انتصروا على ذواتهم، وهزموا شياطينهم، وخرجوا من عبودية الأهواء، إلى فضاء الفطرة السليمة، وذوق الناس العام. وأولئك هم قليل، وربما تعود قلتهم هذه إلى تمسكهم الشديد بمبدأ ما، ورفضهم لمبدأ آخر، لقناعتهم أنّ الشمس تأتي من المشرق ولا يمكن أن تأتي من الشمال. والواقع ينطق بصدقهم؛ إذ لم نسمع أنها جاءت من اتجاه آخر.
إذا كان من الضروري على المرء أن يقول الحقّ، ويزن بالعدل، فعليه أن يحبهما أولاً؛ إذ إنّ طبع الإنسان يسير به إلى ما يحب، ويبتعد به عما يكره، والساعي للحق ساعٍ إلى الحقيقة، والحقّ أعظمُ، والحقيقة لا تعظم إلاّ بالحق. ومن أحبّ شيئاً عرفه ثم اتّبعه، ومن هنا ترى المصائب تنهش في الأجساد، ولا تترك العقول؛ لأنّ الكثير منّا يحبّ من غير علم، ويعمل من غير حبّ، ويسير على غير هدى؛ ليس لأنّ سجيته مشاكسة، وفطرته معاكسة، لكن لأنه لا يرى سوى شخصه، ولا يسمع إلاّ صوته، فكأنه ألْزَمَ نفسه مُلْكًا خاصًا يحكم به على غيره بالجهل والحمق، وكأنه بالناس عليماً بصيرًا.
إنّ في الحياة خللاً كبيرًا نتمزق فيه، وتتصارع أشلاؤنا في أرجائه، ونئن تحته. هذا الخلل الذي تدفعه رياح التغيرات السريعة، فتهزنا هزًا عنيفًا ثم تتركنا نتهاوى مثل الورق الخريف، فترقص بنا الريح يمينًا شمالاً، وغيرنا تتفتح براعمه، ويشتدّ ساعده، معلنًا ميلادًا جديدًا، أو دورة حياة أخرى، نكون فيها الأضعف، ويكون فيها الأقوى! تهزنا الرياح ليس لقوتها فحسب؛ بل لشدة ما بنا من ضعف، ذاك الذي نخرت فيه أنياب السنين الطويلة التي كان الأنسب أن نكون فيها أقوياء، حاكمين، لا مستعبدين، خانعين، نتنقل من عتبة زمنية إلى أخرى، وفي ممرات مظلمة وضيقة لا تتسع إلاّ لنعش آلام نعش ليلة واحدة.
لقد كبر الداء، وعظم الخطب؛ لأننا نفقد قيمة السلامة والقوة، ولا نحسن إلاّ خلق المتاهات والسير في المنحدرات؛ ليس لأنّ طبيعة الجغرافيا تتطلب منا ذلك؛ لكن لأنّ ولادتنا أصبحت لا تتم إلاّ تحت جمهور من القابلات، وكأن الزمان ضاق بنا ذرعاً؛ فصار وجودنا وعدمه سيان.
لقد أصبح الثبات على الخطأ سنّة، والرجوع عنه معصية، نتحدث في الواقع ولا نريد أن نكون واقعيين، كأن الخروج عن الواقع له تفسير يرتفع فوق الهزيمة، ويقترب من الصواب، من أجل ذلك ضاع الواقع، وصار يبحث عنا ولا نبحث عن أحد.
ما أحوجنا إلى فهم أنفسنا! وكشف جوهرنا الذي لا نتعامل به، لذا ضُيّعتْ المبادئ والقيم التي كانت في يوم ما لافتة كبيرة تطوف أرض المشرق والمغرب! صلاتنا في أكثرها عادة، أو رياء، وهي العبادة المستمرة طوال أيام السنة، لا تنقطع. وقد وضعت لبقاء التواصل بين العبد وربه، فنعرض رغباتنا وحوائجنا على من بيده القضاء، نأتي إليه في مناجاة وخشوع وعشق، لكن أين يحدث هذا؟ في أي بيت من بيوت الله أو بيوت عباده؟ أجل، كثير منا يؤدي هذه العبادة، لكن في رسمها فقط، ليس في معناها وغايتها ومبتغاها، لذا ضاعت الصلاة، وعاد إلينا الدعاء مذمومًا مدحورًا.
إنّ الخروج عن الواقع لا يكون إلاّ للذين يشكون من رؤوسهم، ولا يسمعون إلاّ الموسيقا الصاخبة، وينامون ساعات طوال، يسيرون مع الريح وهم خلفها، يرتفعون عن الأرض لأنهم خرجوا عن الواقع هزيمةً وضعفاً.
أقول، ما أحوجنا إلى الالتفات إلى الوراء، لنرى ماذا صنعنا للتاريخ؟ وماذا تركنا للأجيال؟ ولا غرو أننا لا نلتفت لشيء؛ لأننا لم نصنع شيئًا لأنفسنا، لذا تكالبت علينا الأحداث التي لم نكن فيها إلاّ كما يكون الملح في الماء، والزبد في البحر، فضاع طعمنا، وبهت لوننا! لِمَ لا تكون القلوب أوسع من المأساة؟ ولِمَ لا يكون الصدر أرحب من الهموم؟ ولماذا نشعر أن الداء أعظم من الجسد دائماً؟ وفي ذلك معاني الاستسلام والخنوع والهزيمة، بل الاندثار أيضًا.
إنّ الواقع عند العقلاء يصنعُ لا يفرض، لأنه الصورة التي تعكس السلوك والمشاعر والإرادة، ولا تعكس الشمس والقمر والماء، ومتى كان الواقع مُعدًّا سلفًا لأحلامنا وآمالنا؟ أو مُعدًّا لأحد إعدادًا تامًا؟ أينزل الإنسان من بطن أمه ماشيًا متكلمًا وآكلاً شاربًا وعالمًا؟ ألا يخضع لفترة رعاية كافية حتى يدرج في ركاب الحياة؟
إن الأصل في الواقع أن يكون صعبًا، محفوفًا بالمخاطر، والأصل في الإنسان العاقل أن يتكيف مع واقعه ثم يبزغ نجمه، كبذرة الأرض، ما إنْ تشعر برائحة الماء حتى تتملل تحت التراب فتطلّ بقوة وتشق طريقها واثقة الخطى، وتفرض وجودها في الواقع.
إذا كان قد كتب علينا أن نعاني ما نعاني من المصائب والنكبات، وأصبح واقعنا مؤلمًا وصعبًا، فلنجعل من هذا الواقع تحديًّا، نثبت فيه أننا قادرون على العيش بعزة وكرامة، وأننا أهل للتحدي والانتصار.
التدقيق اللغوي : هبه العربي