الوليدُ الجديدُ في مهده تراه أحيانًا يبتسم وهو غارق في نوم عميق، تسألُ نفسك: ما الذي يبعثه على صياغة هذه الابتسامة؟ هل أحسّ أن أحدًا داعبه أو لامسه أو أشار إليه إشارة لم يستطعْ أن يعبر عنها إلاّ بالابتسام؟!
وقد تراه أحيانًا يصرخُ باكيًا دون مقدمات، يفاجئك بصوته، فيقطع عنك لذّة نومك، ويسرقك من أفكارك إن كنت مستيقظًا، وقد أوهمك أنه نائم مسافر عنك في لذّة النوم السحيق ... وأنت أمام ابتسامته أو بكائه تقفُ حائرًا إن أردت التعليل، وربما ترضى فتقنع نفسك أن حلمًا جميلاً تراءى له في نومه فابتسم، أو حلمًا مزعجًا مرّ به فتظلّمَ بالبكاء! وستنفقُ وقتًا طويلاً دون طائل إذا حاولت أن تجيبَ نفسك؛ هل الأطفال في سن الأسابيع الأولى يحلمون كما نحلم؟
وكيف يحلمون وهم لم يعايشوا غير مجموعة صغيرة من الأصوات المبهمة التي ترتفع وتنخفض من حولهم، ومجموعة من الصور التي تحضر حينًا وتغيب حينًا آخر، أو مجموعة من نسمات هواء الحياة التي يأخذون منها ما يقيم حياتهم، ويتركون خلفهم حياة صاخبة تقوم ولا تقعد، وتموج ولا تهدأ، وتثرثر ولا تسكن، وتعمل ولا تتعب.
قلتُ لك ستنفقُ وقتًا طويلاً ولن تصل إلى إجابة مرضية، أو حجة يهدأ بها سؤالك الثائر؛ فالأحلامُ ترتبط بالحياة التي هي ذهاب وإياب، ونوم وعمل، وحركة وهدوء، وتفكير مستمر ثم تأمل هادئ ... وربما كان للأطفال الصغار حظ قليل ناتج عن المثيرات لحواسهم، ولكنّ الشيء المؤكد أنْ لو أتيح لهؤلاء الأطفال من القدرة على وصف ما يبعثهم على الابتسام أو البكاء لأفصحوا لك، ولقالوا أنهم سمعوا صراخًا فخافوا وبكوا، أو أنهم رأوا عصفورًا صغيرًا يطير حولهم، أو أنهم في حالة تمرين على حركات العين فابتسموا أو عبسوا، أو سمعوا أو رأوا أمورًا ليس بمقدورهم أمامها إلاّ أن يبتسموا فتراهم، أو يبكوا فتسمعهم.
لكنّي في الحقيقة لا أريدُ أنْ أقصّ عليك كيف يحلم الأطفال، فيبتسموا أو يبكوا، أو أن أحدّثك عما يُرى في المنام؛ لأنّ النوم سَفَرٌ يبتعدُ فيه الإنسانُ عن نفسه، وهي فيه، وهجرٌ للعواطف وهي تجري في دمه، وهدنةٌ مع العقل وهو المسيطرٌ في المرء، والحاكمُ لسلوك الإنسان في جلّ أمره.
أريدُ أنْ أحدّثك عن الحياة التي تعبثُ بنا ونعبث بها أحيانًا، الحياةُ التي أول ما تقابلها، تقابلها بالصراخ، والناس من حولك في نشوة عارمة لا توصف، وسرور ساقه طول الانتظار، فقد جاءهم شريك جديد لحياتهم، يمدّهم بالأمل ويحدوهم على العمل ... وحين تفارقهم في آخر العمر يلتفون حولك حزانى مفجوعين، يغشاهم الضيق، ويشتطّ هم البكاء ... الحياة التي منذ اللحظة التي تخرج إليها تصبح واحدًا من أجزائها، تأخذ نصيبك فيها من كلّ شيء؛ من الهواء والشراب والطعام، والآلام والأفراح.
وكأنّك حين تمتزج مع كلّ ذلك توافق على هذا العرض، موافقة المُكّرهِ، فكأنّك توقع على عرضٍ لا تعرف مضمونه وأبعاده. وليس أمامك إلاّ أن توافق؛ إذ ليس بمقدورك أن تعيش في غنى عن الماء أو الهواء أو الشمس أو الطعام أو الناس، تلك هي الحياة ... أو تلك هي المتاعب.
الغريبُ يا صاحبي أن شروط العقد هذه نرضى بها وتجعلنا كائنات حيّة، تبقى هي مركز حياتنا، قوامها كلها، نتخيّلُ أنها سهلة سلسة المنال عند البدء، فإذا ما خرجنا من كلّ حلقة إلى التي تليها، فمضت السنون، زادت حاجاتنا، وكبرت مطامعنا، وتعددت مطالبنا، فانفجرت أمامنا المصاعب، فتركتنا مرضى تارة أو فقراء تارة أخرى، وكلما مضى يوم من هذه الحياة شعرنا أننا نتورط أكثر، ونغرق في وحلها أو جمالها إن شئت، وهو تورط لا ينتهي إلاّ وقد شحب الجلد منا وانحنى الظهر.
هذه الشروط تصبح أحلامنا وهواجسنا وأفراحنا حين تتوفر، وأحزاننا وهمومنا حين تضيق مساربها، ويصبح الوصول إليها في غاية التعقيد.
أكثرُ الناس يا صاحبي حين تسأله عن حلمه، يقول لك:" أريدُ أنْ أعيش." وقد تضحك أو تخفي ضحكتك ظانًا أنه يُشْكِلُ أمره عنك! ولو تأملت جوابه لوجدته صادقًا كلّ الصدق، إلاّ إذا كنتَ تخالُ العيش وافرًا سهلاً يأتيك مع ضوء الشمس، ومرّ الوقت دون كدٍّ أو جهد؛ وذلك لأنّ الحياة لا تستقيم بعنصر واحد، أو بشرط منفرد منعزل عن بقية العناصر، فليس بوسعك أن تقول سأتعلمُ هواءً وأتناولُ فاكهة من هواء، وأنامُ في الهواء وأسافر في الهواء، وأحلمُ بالهواء، وأحصُلُ على الهواء، فقط كي أحيا. ليس بمقدورك أن تختار عنصرًا واحدًا وتقول هذا يكفيني! ولا أبتغي سواه؛ لأنّك إنْ فعلتَ كنت كمن يقول سأعيشُ برأس فقط دون حاجة إلى أطراف أو قلب أو أمعاء، أترى ذلك ممكنًا؟!
وإنْ تأملتَ قولي ستجدُ أنّ الهواء الذي يظنّه الناس أسهل العناصر وأدومها له من التكاليف على الإنسان مثل الذي لباقي العناصر، فقد يصبر الإنسان على طعام أو شراب مدة من الزمن، لكنّه لا يطيق الصبر عن الهواء لحظة قصيرة، الهواء الذي يأتيك صافيًا عذبًا، فيدخل في جوفك فتنتشي له حواسُكَ كلها، الذي يأتيك وقد قطع المسافات البعيدة فوق البحار، وعانق الأشجار والجبال والسهول، وحمل لك من طيّب الزهر وعبق النبات ما يجعلك تستسلم لعليل نسيمه ورقّة ريحه.
هو كالماء الذي تشربه، أتراك لا تميّز بين جرعة الماء الزلال، من الماء الآسن أو الأجاج، أو الذي تدخلتْ فيه يدُ الإنسان فسكبتْ به من المطهّرات الكيماوية ما يجعله كالدواء المرّ الذي تمجّه النفس أحيانًا.
وأنت بعد ذلك تستمع بالخروج من زحام المدن إلى رحاب الطبيعة الخلاّق، وتجدُ نفسك هاربًا من تلوث الأجواء، هنا إلى السهول والجبال والأشجار وجداول الماء ... هناك يدُ الإنسان تدخلتْ فأفسدتْ عليك هواءك وماءك، وهنا ما تزال الطبيعة تنمو وتترعرع كما شاء الله أن تنمو على سجيتها الحلوة، ورحم الله من قال:
لِمَ لا أميلُ إلى الرياضِ وحسنها وأعيشُ منها تحت ظلٍ ضافي
والزهرُ يلقاني بثغر باســـــــــــــــمٍ والماء يلقاني بقلبٍ صافــــــي
أحلامُ الناس يا صاحبي، نوعان؛ الأول يتراءى لهم في منامهم فيكون مزعجًا تصحو منه النفس وهي تتمنى أن يكون حلمًا عابرًا لا حقيقة! وتارة يكون حلمًا عذبًا جميلاً تتمنى النفس أن يمتدّ إلى أطول فترة ممكنة، ولا تحبّ أن تفيق منه وقد ولّت صُوَرُهُ، وتلاشت أحداثه، وحين تصحو تحاول أن تسترجع ذلك الشريط لتعيش بعض متعته مرة أخرى، لكنه يكون كالغمام الذي استمتعت بظله ثم انزاح عنك رويدًا رويدًا، وكشف لك أشعة الشمس الملتهبة في أواخر أيام الربيع. وآخرُ حلمٌ نرسمه في حياتنا، وهنا تكون المعضلة، ومصارعة الزمن، وشقاء الحياة.
أحلامنا في هذه الحياة نفصّلها بعقولنا، ونرسمها بأقلامنا وحساباتنا، نرسمها على الوجه الذي نحبّ، لا على الوجه الذي يمكن أن تتحقق، ونجهر بها تارة، ونكتمها تارة أخرى؛ فقد يكون في كتمانها نجاة وأمل وراحة، كما قد يكون الجهر بها ضيق ويأس وفشل. ولستُ أدري لماذا سُميتْ بالأحلام؟ ولكنْ من المؤكد أن هذه التسمية ترتبط بعلاقة قوية مع أحلام المنام التي تراها لحظة وأنت تغطّ في نومك، مع أنها لا وجود لها في العالم الخارجي، فلا يراها غيرك، ولا يشعر بها سواك.
والجامعُ بينهما إذن، هو مرورها في الذهن مصوّرة لفترة ما دون أن يلمسها أحدٌ من الناس غير صاحبها، حتى إذا نطق بها على مسمع من الخاصة أو العامة قد يكون لها بعض الأثر حينئذ.
فيعجبون متفائلين أو يتعجبون متشائمين!!
أحلامُ الناس تتفاوتُ بينهم كما تتفاوتُ أشكالهم وألوانهم وضحكاتهم، أو قلوبهم وعقولهم، أو كما تتفاوت أوضاعهم، فيكون منها البسيط السهل، ويكون منها الملتوي الصعب، ومنها ما يدرك إلا بمعجزة كبرى.
الفقيرُ قد يحلم أن يحصل على قوت يومه، ويعيشُ مستورًا، والمتوسط الحال قد يحلمُ أن يصبح غنيًا يستطيع شراء الأشياء التي لا يملكها ويملكها من هو أحسن منه قليلاً، والغني قد يحلم أن يكون أكبر صاحب ثروة في بلده، يحتاج إليه الناس ولا يحتاج إلى أحد ... وقد نجد من يحلمُ أن يحصل على شهادة عليا، أو يجتاز بسلام وأمان مرحلة ما في حياته كأن يكون طالبًا أو مريضًا أو مسافرًا.
أحلامُ الناس كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، نعدّ منها كما ترى ولا نعددها، وهي عندي على ثلاثة صور؛ أما الأولى فهي الممكن جدًا تحقيقه وهي الأحلام القصيرة في مدتها الزمنية أو هي الآنية كحلم المسافر في الطائرة أن يصل المطار، وينزل البر، وحلم النائم أن ينقضي ليله، وحلم الموظف أن تأتي إجازة نهاية الأسبوع، وهذا النوع يتحقق بالصبر القليل، وأما الثاني من الأحلام فهي الممكن تحقيقها بصعوبة، وفي هذا النوع تكون أدوات التحقيق ليست معدّة بشكل جيد، فالجهد الذي تحتاجه أكبر، والوقت أطول، واحتمالات النجاح ليست مضمونة غير أنها ممكنة، كحلم الطالب الضعيف أن ينجح في الثانوية العامة، وحلم الفقير أن يصبح تاجرًا كبيرًا، وحلم الجندي أن يكون وزيرًا للحرب، فهذه الأحلام وما أشبهها ليست مستحيلة لكنها بعيدة المنال لحاجتها لجهود جبّارة وصبر طويل.
وأما الصورة الثالثة من الأحلام فهي المعقدة خطوطها، والملتوية طرقها، التي نستطيع أن نقولها أو نكتبها ولا نستطيع أن نعدّ لها خطة سهلة مضمونة التنفيذ والنجاح، وفي هذا النوع تكون أدوات التنفيذ شبه مشلولة، وأكبر من طاقة الفرد، كأن تحلم أن تحفر في وسط الجبل نفقًا بفأس ومجرفة، دون أن تعي طبيعة الصخور وطول المسافة، وكحلم جيشٍ أن يحقق النصر المؤزر على عدوه، ولا يمتلك القائد الخبير الحكيم، ولا الأسلحة المناسبة، ولا يعرف حجم قوة عدوه الحقيقية أو يعرفها وكأنه لا يعرفها، وكحلم الجاهل أن يكون عالمًا له شأن في زمانه، وغير ذلك من الأحلام التي لا نستطيع وصفها بالمستحيلة، لكنها تحتاج إلى تفكير وقدرة وعمل متواصل وإرادة جبارة وإيمان ثابت.
التدقيق اللغوي: هبه العربي