ما أقربك يا نفسي وما أكثر حديثي معك. معي أنتِ كلّ لحظة، نهارًا وليلًا، تعرفين ما أعرف وتحسّين بما أحسّ، وأنسى كل هذا وأكذب عليكِ كأنك بعيدة منعزلة لا جزءًا مني! ولما أنتبه، أجعل كذبي ضرورة لتطويعك وأعتدّ به قوة لإخضاعكِ! ألوّن أمامك ضعفي وتردُّدي، وأتحايل لتقبلي سكوتي أمام الخطأ صبرًا، وجدلي في الصواب بصيرةً، ونفاقي صدقًا وتذلُّلي احترامًا! وبماذا أخذتِ تردّين على مغالطاتي وعلى إمعاني في إسكاتكِ بما ينقض الفطرة الأصيلة؟ خرجتِ يا نفسي من حصن العقل، وفارقتِ مجال الإحساس، وأغفلتِ علوم الذاكرة، ثم أقبلتِ تؤكّدين لي أن جهالتي حقائق، وأن ما أكرهه ويحوك في صدري إنما هو برّ واضح! رجعتِ تزيّنين لي أنني أحسن صنعًا في مواقفي كافة، تطمئنينني بأنني خير من يعامل الناس ويبدع في أعماله، وألا حاجة لي أن أراجعكِ ثانية واحدة ولا أنأستزيد علمًا. صرتِ يا نفسي سدًّا عميقًا يردّ نظري عن أساليبي، وحاجزًا خفيًّا يخرسني عن مصارحة أحبتي وخاصتي بخواطري وعن استشفاف ما يحبون وما لا يحبون وقبول آرائهم التي توافقني ولا توافقني!
اتفقتُ مع نفسي، وأي اتفاق! ليته صُلحُ منفعة، أو هدنةٌ مريحة، أو اتحادٌ قوي! اتفاق كاتفاق (بلفور) مع اليهود ضد جميع من حولهم من قريب وبعيد! لا أذكر متى وأين وكيف، وجدتُني ذاهلًا متفقًا مع نفسي أن نَثبُت معًا على صمتي وقولي وفعلي وإقبالي وإحجامي وجميع حركاتي وسكناتي وخصالي ثبات مسمار في قارعة الطريق، بل هو أقرب إلى تيبُّس الميت! ومهما رأت مني وسمعت، لا تقرصني ولا تضيق بي ولا تحدثني، بل تمدحني وتؤيدني! اتفقتُ ونفسي أن ندفن المشاعر والخواطر والمبادرات عميقًا في وادٍ بعيد؛ لنعيش كتلة جوارح تتحرك وتسكن لسبب ولغير سبب، ولغاية ولغير غاية، وباتّساق وبغير اتّساق، لنحيا (شيئًا) يُصدر أصواتًا وأفعالًا تؤثر أو لا تؤثر وتغير أو ﻻ تغير في العقول والقلوب والأحوال، بصرف النظر عن حسن الأثر وسوءه وصواب التغيير أو خطئه وعن قبول اﻵخرين أو نفورهم، وأن أظل (أنا) في حال جامدة من القناعة المطلقة بحسن ظن الجميع بي ورضاهم عني، وبحسن ظني بنفسي ورضاي عنها. وإن اهتز الاتفاق يومًا وكرهت شيئًا في كياني وفيما يصدر مني، عدت فأقسمت لنفسي فورًا أن الخلل ليس مني، وركنت إلى اتفاقي معها!
إن وصلتُ، أو وصل قارىء، إلى تلك الحال، ثم أدركَنا الحظ فانتبهنا، فليس لنا سوى التوجُّه المخلص إلى مولانا ــ جلّ جلاله ــ أن يعيذنا من شلل الأحاسيس والعقل والقلب، ومن الجمود المورّث للإمعية، ومن العجلة والكبر والبلادة والجهالة، وأن يرزقنا تحرّي العدل والحق بنور العلم واﻷدب والعمل بهما، وأن ينعم علينا بالكرامة فلا يطلب أحدنا في تعامله مع نفسه ومن حوله إلا رضى الله وحده، وإن عارضتنا نفوسنا وكل النفوس. إنّ هذا صعب يا إلهي لولا عونك وقوتك ورحمتك.
----------
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.