تعددت المؤشرات والعوامل التي ساعدت إلى حد كبير في ظهور وانتشار جل مكونات المجتمع المدني بالمغرب إلا أن أبرزها هو المتجلي ثقافيًا في التنوع البشـري والثقافي والجغرافي الذي يطبع المغرب عبر مختلف مناطقه، وهو المؤشر الذي من شأنه أن يساعد على نشر الوعي الداعي إلى حماية المجتمع المدني، بشتى فعالياته وفي سائر مناحيه.
أ* التنوع الثقافي: وهو مفهوم يرتبط بعمق كيفي للظاهرة الثقافية الواحدة، حيث أن نفس البراديغم الثقافي يجد له التحققات والتجسيدات والتوصيفات المتعددة عبر مختلف مناطق وجهات المغرب، فالتنوع يرتبط أساسًا بالكنـه(Essence) لا بالكم. وهنا، فإن نجاح أي مشروع تنموي يرتبط بطبيعة الخصوصيات الثقافية للمجال أي مراعـاة التنوع الثقافي وعدم المجازفة باتخاذ خطوات قد لا تحظى بالرضى والقبول من طرف الفئات المستفيدة لتعيق في نهاية الأمر كل الآمال في بناء الغد المشرق للمجال الكائن. لهذا، لا يمكن تصريف المشاريع التنموية خاصة في التراب المحلي، إلا في سياق تناغم تام وإندغام كامل مع الخصوصيات الثقافية المبلورة لمجموع القيم الرمزية والتعابير المادية السائدة لدى الأفراد والجماعات، حيث أن مجموع هذه المضامين الثقافية المرتبطة بجدلية التمازج(Métissage) والتكامل والتفاعل والتداخل والالتقاء يحددها - كما يرى ذلك اللساني المغربي سعيد بنيس - نوعين من المنطق الثقافي: منطق غير منظم يتعايش مع الأفراد في حياتهم اليومية ومنطق منظم يؤطره فاعلون منضويون تحت هيئات مجتمعية مدنية لها تصورها الخاص للمشروع المجتمعي في شقه الثقافي (كالجمعيات الثقافية مثلاً).
ب- التنوع اللغوي: يمكن تصنيف التعدد اللغوي إلى صنفين:
صنف التدبير الشخصي اليومـي( (Gestion invicoللغات، حيث يعمد الأشخاص والأفراد إلى اختيار لغات بعينها من بين اللغات الأم أو اللغات المكتسبة واستعمالها في سياقات مجتمعية معينة وملائمة. وصنف التدبير المؤسساتــي (Gestion in vitro) الذي يدخل في إطار السياسة والتهيئة اللغوية التي من خلالها يعهد لبعض المؤسسات الحكومية في إطار أشكال من المأسسة تدبير التعدد اللغوي بحسب المرتكزات المحددة والتوجهات الوطنية المتفق بشأنها، مثل الدور الذي يضطلع به معهد الدراسات والأبحاث حول التعريب والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. وهناك خاصية مميزة للمغرب توجد في تعددية لغاته وهي غير منفصلة عن جغرافيته وتاريخه. مما يجعل اللغة مكونًا أساسيًا من مكونات الثقافة المتعددة.
ج- التنوع الديني: في سياق التجربة المغربية، وفي إطار نموذج "إعادة هيكلة الحقل الديني" يطرح السؤال بإلحاح: هل تتيح تجربة بناء المجتمع المدني فرصة لنشوء حركة مدنية مؤسساتية للدفاع عن العقيدة وحرية الاعتقاد، مع ما يستلزم ذلك من ضرورة الاعتراف بالتعدد في صلب القيم والثقافة المدنيتين؟ وهو تعدد كغيره من أنماط التعدد مفيد للمجتمع المدني وللتدين، ولا يضر الدولة أو غيرها من الحساسيات في شيء، إن تتعدد الرؤى في المسـائل الدينية كما في القضايا السياسية والثقافية. وحده هذا الخيار يمنح للدين موقعًا طبيعيًا في المجتمع المدني، مما يمنح هذا الأخير بدوره موقعًا طبيعيًا في المجتمع، ويعبد جسور التضامن بين قيم يبدو أنها تختلف وتتناقض، بينما هي قيم مرنة قابلة للتصاهــر والاستيعاب - كما يرى ذلك الباحث المغربي محمد الغيلاني -.
د- التنوع السوسيولوجي: وهنا ما يثير التأمل، هو الصيغة التي يتم بها الانسلال إلى المجتمع المدني، من دون الأخذ بعين الاعتبار لمبدأ الإجماع مما يتنافى جذريًا مع أبرز المبادئ المؤسسة للمجتمع المدني، وهو مبـدأ التنازل الإيجابي الناتج عن مبدأ آخر أكثر إيجابية وهو مبدأ التوافق، وهما معًا يعبدان الطريق أمام بناء الروابط الاجتماعية والأعراف والتضامنات، وإعادة توزيعها من دون احتكارها، بالتوسل بالأسس التعاقدية والقائمة على جملة من التنازلات الرضائية. وتفترض هذه الأخيرة أن تصدر عن كل الاتجاهات والتيارات بل وأن تشمل كل القواعد والأنماط والقيم والبنى، سواء تلك التي يعتقد أنها تنتمي إلى العقلانية والحداثة أو تلك التي تدعـي تمثيلها للهوية والتراث والقوميات والأقليات شريطة التموقع في الأبعاد الطوعية. إن التحدي الأهم الذي ينبثق في وجه المجتمع المدني في المغرب، هو المرتبط بالصيغ الانصهارية لمختلف الخصوصيات الممثلة لأنماط التعايش السائد ببلادنا فهل يصمد المجتمع المدني بمجرد توفر التنازلات الرضائية أم أن الأمر يقتضي اتفاقـًا مسبقًا حول الأشكال المؤسساتية المعول عليها لتصريف مختلف أوجه التعبير عن الذات؟ وهنا يفترض في المجتمع المدني أن يعكس على الدوام تلك الحركة المتدفقة للاعتراف المتبادل، مع الحرص الأكيد على التدبير الممأسس للصراع داخل المجتمع برمته، ومن ثم كان الانتماء للمجتمع المدني أحد التعبيـرات السوسيولوجية عن حركات اجتماعية جديدة نابتة، لها طموحات ومطالب ليست بالضرورة متطابقة ولكنها تعترف بضرورة الائتلاف في ظل وضعيات الاختلاف.
من هذا المنظور التحليلي، يبرز المجتمع المغربي كمجتمع للبنيات الاجتماعية المتعددة، وهو الشيء الذي يفرض على المجتمع المدني المغربي تبني مقاربة شمولية ثقافية بالأساس تصنع من البنيات المكونة له عوامل دينامية قادرة على إضفاء المزيد من النجاعة والكفاية على عملية المعرفة المرتبطة بأسسه
التدقيق اللغوي: هبة العربي