اقتضتْ حكمة الله أن تتفاضل الأزمنة والأمكنة والعبادات، كما قضتْ عدالة السماء بأن يتفاضل أهلُ الخير والصّلاح في آجل أُخراهم ومقرّ عُقباهم؛ فكانت الجائزة مائة درجة في جنان ربّي، يتراءى فيها أهل المراتب العُلى لذوي الدرجات الدُّنى كالنّجوم الزاهرات في السماء الصافيات، بينما كان أهل الفردوس هم درّة التاج ونبع الفرات حين تبوّؤا أوسطَها وتسنّموا قمّتَها... "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
لم يكن هذا التفاضل والتمايز إلا تطبيقا عمليّا لنواميس الحياة التي لا تتخلّف، وقوانينها التي لا تُثلَم، وقسطاسها الذي لا يَحيف...
إذ كيف يَستوي مَن يَسكب الحبر على الورق والحروف على الشاشات، مع مَن يسكب دماءه زكيّة نقيّة على سطور الوغى وساحات الردى!
وكيف يَستوي مَن يُصلِّي بنصف عقل وربع قلب، مع مَن انتصب في صلاته فغاب عن الوجود وكان مِن أهل الشهود الذين تقرَّحتْ أكبادهم واحترقتْ وجْناتُهم!
وكيف يَستوي مَن تصدّق بفضل ماله وفراغ أوقاته وفَضْلة طعامه، مع مَن بذل أثمن ماله وصُلب أوقاته وأفضل إدامه!
وكيف يَستوي مَن جازى بالإحسان إحسانا وبالخير خيرا وولَج باب الهداية فذّا، مع مَن سما وارتقى فأحسَن إلى من أساء ودفع الشرّ بالخير وطاف بطبق الهداية على مَن عرَف ومَن لم يعرف!
وكيف يَستوي مَن صلّى فرضَه وصام رمضانَه وحجّ حجة الإسلام لاغيْر، مع مَن زاد فتنفّل وتطوّع واعتمر!
وكيف يَستوي مَن قاد الرّكْب وحمل الراية وتلقَّى سهامَ الردى بصدر عار، مع مَن انتظم جنديّا يَفعل مايُؤمَر به ويُنفِّذ ما يُملَى عليه!
وكيف يَستوي مَن أَلجم نفسه بالعزائم وساقها إلى قمم المعالي فما طافتْ به شبهة ولا حاق به شكّ، مع مَن مَال للرّخص وغصّ بحرُه بالمدّ والجزر فاشتدّ تارة ولان تارات!
مضمار الدنيا مطيّته الأقدام وزاده صحة الأبدان وروّاده مِن الكثرة التي تستعصي على العدّ والحدّ، بينما مضمار الحقّ لا يقوى عليه إلا القلوب ولا يُغنيه مِن زاد إلا إيمانٌ وتُقى ولا يلِجه إلّا النّفر مِن الرجال... ذاك المضمار الذي سبَق فيه الصّدّيق فوثَّق الفاروق ذلك حين قال: "لا أسبِقه إلى شيء أبدا"، وذلك المضمار الذي تفوّق فيه الفاروق فشهد له أبو الحسن حين قال: "لقد أتعبْتَ مَن بعْدك يا عمر"، وهو ذات المضمار الذي فتَرتْ فيه هممُنا وكلَّتْ فيه عزائمْنا؛ فارتضتْ السَّفح دون القمّة،والجُنديّة دون القيادة، والنّجاح دون التفوّق.
على مسار المضمار إشاراتٌ ولطائف تُذكِّر بأنّ بلوغ منصّة التتويج هو فضلٌ مِن الله ومنّة وإن كان التفاضل فيها بالعمل والسعي، وتُنبّه على أنّ ثلاثا مِن الهِدايات الأربع -التي فصّلها الراغب الأصفهاني في المفردات- هي في يمين الله ولا يملك البشر منها نقيرا ولا قطميرا؛ بدءا بهداية الفطرة ومرورا بهداية التوفيق وانتهاء بهداية الفائزين إلى نُزلهم في أعالي الجِنان.
رحِم الله ابن القيم حين خطّ لنا طريق الفوز في مضمار الحقّ فقال: "النّعيمُ لا يُدرك بالنعيم ومَن آثر الراحةَ فاتتْه الرّاحةُ" وبَرَّد الله ثرى ابن الجوزي حين أدلى بدلوه فقال: "لايُدرِك المَفاخِرَ مَن كان في الصّف الآخِر"... فهل مِن مُشمِّر.
"تَهُونُ علينا في المعالي نفوسُنا
ومَن يَطلبِ الحسناءَ لمْ يُغلِهِ المهرُ"
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.